آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مطلب في قول أبي يزيد البسطامي

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السّثلمي رحمه الله : مات أبو يزيد عن ثلاث وسبعين سنة، وهو من قدماء مشايخ القوم له كلام حسن في المعاملات، ويحكى عنه في الشطح أشياء منها ما لا يصح ويكون مقولًا عليه يرجع إلى أحوال سَنيّة وفراسة حادة ورياضة لأصحابه حسنة. مات إحدى وستين ومائتين، وقيل : أربع وثلاثين ومائتين.

ذكر معنى أقواله المشهورة عنه في الشطح :(سبحاني سبحاني ما أعظم شأني).

قال الشيخ أبو النصر السراج رحمه الله: وقد قصدت بسطام فسألت جماعة من أهل بيت أبي يزيد عن هذه الحكاية فأنكروا ذلك، وعلى تقدير صحة ذلك، فنقول: قوله "سبحاني سبحاني" على معنى الحكاية عن الله عزّ وجلّ أنه يقول : سبحاني سبحاني لأنا لو سمعنا رجل يقول : "لا إله إلا أنا فاعبدني"، لا يختلج في قلوبنا شيء غير أنّا نعلم أنه هو ذا يقرأ القرآن، أو هو يصف الله بما وصف به نفسه، وكذلك لو سمعنا دائما أبا يزيد وغيره وهو يقول: "سبحاني سبحاني"، لم نشك أنه يسبح الله ويصفه بما وصف به نفسه.

وكذا قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في العوارف : وما يحكى عن أبي يزيد قوله : "سبحاني" حاشا لله أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى.
قال : وهكذا ينبغي أن يعتقد في الحلاج قوله : "أنا الحق".
قيل لأبي القاسم الجنيد قدس الله روحه إن أبا يزيد يسرف في الكلام، وقال: وما بلغكم عن إسرافه في كلامه ؟ قيل يقول: (سبحاني سبحاني ما أعظم شأني). فقال الجنيد: إن الرجل مستهلك في شهود الإجلال، فنطق بما استهلكه لذهوله في الحق عن رؤيته إياه فلم يشهد إلا الحق تعالى فنعته، فنطق به ولم يكن من علم ما سواه ولا من التعبير عنه ضنا من الحق به، ألم تسمعوا مجنون بني عامر لما سئل عن اسم نفسه ؟ فقال : ليلى، فنطق بنفسه ولم يكن من شهوده إياه فيه، وقيل له : من أنت ؟ قال : أنا من ليلى ومن ليلى أنا.

وأما ما حُكي عنه قوله : (ضربت خيمتي بإزاء العرش) فإن صح عنه أنه قال ذلك فهذا غير مجهول أن الخلق كلهم والكون وجميع ما خلق الله تحت العرش، أو بإزاء العرش يعني: وجهت وجهي نحو ملك العرش، ولا يوجد في العالم موضع إلا وهو بإزاء العرش، فلا سبيل للمتعنت إلى هذا الطعن.

وأما ما حُكي عنه أنه قال: «خضتُ بحرًا وقف الأنبياء بساحله) فقد تكلم الناس على مقالته هذه بأشياء على قدر أذواقهم، ونذكر هنا ما قاله الشيخ الكبير أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه فإنه أقرب إلى أفهام الناس، قال: إنما يشكو أبو يزيد بهذا الكلام ضعفه وعجزه عن اللحاق بالأنبياء عليهم السلام، ومراده أن الأنبياء خاضوا بحر التوحيد ووقفوا من الجانب الآخر على ساحل الفرق يدعون الخلق إلى الخوض، أي : فلو كنتُ كاملًا لوقفت حيث وقفوا.
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله : وهذا الذي فسر به الشيخ كلام أبي يزيد هو اللائق بمقام أبي يزيد. 
وقد قال: إن جميع ما أخد الأولياء من ما أخد الأنبياء كزق مُلئ عسلًا، ثم رشحت منه رشاحة فما في باطن الزق للانبياء وتلك الرشاحة هي للأولياء.
وقال : والمشهور عن أبي يزيد التعظيم لمراسم الشريعة، والقيام بكمال الأدب.
وحُكي عنه أنه وُصفَ له رجل بالولاية فأتى إلى زيارته وقعد في المسجد ينتظره، فجاء ذلك الرجل وتنخَّم في حائط المسجد فرجع أبو يزيد ولم يجتمع به، وقال : (هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة فكيف يؤمن على أسرار الله)، وما جاء عن الأكابر أُولي الاستقامة مع الله سبحانهم، من أقوال وأفعال يستنكر ظاهرها أوَّلناها لهم لِما علمناه من استقامتهم وحُسن طريقتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (ولا تظنّنّ بكلمة برزت من امرئ مسلم سوءًا وأنـتَ تجد لها في الخير محملًا) انتهى كلامه قدّس الله سره.

وأما قوله فى بعض كلامه: (رفعنى وأقامنى بين يديه)، يعنى: أﺷﻬﺪني ذﻟﻚ وأﺣﻀﺮ ﻗلبي ﻟﺬﻟﻚ؛ ﻷن اﳋﻠﻖ. َ ﻧﻔﺲ وﻻ ﺧﺎﻃﺮ وﻟﻜﻦ ﻳﺘﻔﺎﺿﻠﻮن ﰲ ﺣﻀﻮرﻫﻢ ﻟﺬﻟﻚ ومشاهدتهم له، وﻳﺘﻔﺎوﺗﻮن ﰲ ﺻﻔﺎﺋﻬﻢ ﻋﺠﺐ ﻣﻦ ﻛﺪورة ﻣﺎيحجب ﺑﻴﻨﻬﻢ وين ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﺷﻐﺎل القاطعة والخواطر المانعة، والله تعالى أعلم.

وأما قوله : (قال لي وقلت له)، فإنه يشير بذلك إلى مناجاة الأسرار وصفاء الذكر عند مشاهدة القلب لمراقبة الملك الجبار في آناء الليل والنهار.

واعلم أن العبد إذا تيقن بقرب سيده منه ويكون حاضر القلب مراقب الخواطر فكل خاطر يخطر، خطر بقلبه كأن الحق سبحانه يخاطبه بذلك، وكل شيء يتفكره بسره فكأنه يخاطب الله به إذ الخواطر وحركات الأسرار، ما يقع في القلوب بدؤه من الله تعالى وانتهاؤه إلى الله، فهذا على هذا المعنى.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية