ولما حضر وقت لميعاد عين الأمير طائفة من خواصه من عسير ليحضروا وقت المناظرة ، فأقبلوا وهم يحفون بالفقيه ناصر الكبيبى ، والفقيه عبد الله ، وما وصلوا إلا والسيد أحمد جالس على سرير، وبين يديه من ذكرنا من علماء تهامة ، وكافة تلامذته ، فلما وصلوا صافحوه ، وحفوا بسريره من كل جانب ، وجلس في صدر السرير الفقيه ناصر الكبيبى ، وكان في الجانب الشرقي السيد محمد بن حسن بن خالد ، والسيد عرار بن محمد وكثير من سادات المخلاف ، كبار بني شعبة ، وفي الجانب الغربي عامة الناس .
ولما استقر المجلس بأهله وغص بالرجال ، تنحنح الفقيه ناصر الكبيبى ، وابتدأ بخطبة في الوعظ على قاعدتهم ، وثنى بدعوة النجدي ، وكان براعة استهلال كلامه : أن الناس كانوا في جاهلية ، يعبدون الأصنام ، ويستحلون المحرمات ، فتجرد للدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب .
فقال السيد أحمد رضي الله عنه : صواب الكلام ، فبعث الله رسوله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأنه هو الذي أنقذ الناس من الجهالة ، وتحمل أعباء الرسالة ، وشرع شرائع الإسلام .
فقال الكبيبى :محمد عبدالوهاب ، مجدد الإسلام .
فقال السيد : لا ننكر فضله ، ولا مقصده الصالح ، فيما صنع ، وقد أزال بدعاً وحوادث ، ولكن شاب تلك الدعوة بالغلو ، وكفر من لا يعتقد في غير الله تعالى من أهل الإسلام ، واستباح دماءهم ، وأموالهم بلا حجة .
فقال الكبيبى : ما فعل إلا ما هو صواب .
فقال السيد أحمد بن إدريس : هو عالم من العلماء والعصمة مرتفعة من غير الأنبياء ، وهو يخطئ ويصيب ، فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطاء فله أجر وهو معفو عنه في خطئه ، ولكن لا يحل لكم التقليد له فيما أخطاء فيه ، لأن ذلك هو ما كلفه الله تعالى على مبلغ علمه ، وأنتم لجهلكم بمعزل عن أخذ دليله ، ومعرفة مهيع سبيله .
فقال الكبيبى : الشرك الأكبر قد عم الأقطار كلها ، والناس كلهم قد ارتدوا عن الإسلام في المشرق والمغرب واليمن والشام . ولولا أن الشيخ محمداً جدد الإسلام ، لكان الناس في ظلمات الكفر.
فقال له السيد أحمد : معاذ الله تعالى ما كان الشيخ محمد عبدالوهاب يسلك هذا المسلك ، أنت رجل حديث السن ، وأنا عرفت في مكة سعود بن عبدالعزيز ، وعلماء حضرته أولاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب : عبد الله بن محمد ، وأخوه حسين وسليمان ، وهم علماء يعرفون الحجة ، ويلتزمون اللوازم عند واضح المحجة ، ولم يكن اعتقادهم ما أنت عليه ، وهم مبرؤون مما تنسبه إليهم ، وإنما أنت نشأت في بلد أهلها عوام ، وما عرفت من يرشدك إلى الصواب ، بل : ((حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء )) وهذه الأمة المحمدية الحكم عليها جميعاً في جميع الأقطار الإسلامية بالشرك الأكبر والضلال العام ، يرده قواطع الأدلة ، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أمته نصف أهل الجنة مع ترادف القرون من لدن آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ألوف من السنين ، وهم أمم متكاثرة لا يعلمهم إلا رب العالمين ، ومع هذا فهم نصف أهل الجنة ، فزن كلامك ميزان الشرع لتعرف الخطأ .
فقال ناصر الكبيبى : هذه المشاهد والقباب الموضوعة في اليمن ، إنما هي للاعتقاد في أهلها .
فقال السيد أحمد : لا شك أنه وقع من كثير من العامة ، ومن هو قريب منهم من الخاصة شيء من العقائد المفضية إلى الشرك ، وتنوسي الشرع المحمدي بسبب إهمال الملوك لذلك ، وعدم استماعهم لإرشاد أهل العلم ، والدنيا مؤثرة في كل زمان ومكان . وأما خواص الأمة ففيهم طائفة من العلماء وغيرهم لا يزالون ما بقيت الدنيا قائمين بالحق ، ويحفظ الله بهم الشرع ، فهم منزهون من الشرك ، ولا يخلو قطر من الأقطار منهم ،فلا يصح الحكم بالشرك على الأمة جميعاً بسبب جهل عوامهم ، ومن لا يتقيد بالشرع من خواصهم ، ومن كفر مسلماً، فقد كفر بنص الأحاديث . وأما القباب والمشاهد فهي بدعة منافية للشرع المحمدي ، لم يحدثها على القبور سوى جهلة الملوك ، ومياسير العوام من غير مشاورة لعالم ، والباطل لا قيد له . فوجم ناصر الكبيبى ، وأحصر عن الجواب .
قال الكبيبى : يا أحمد وإنك لا تعرف الفرق بين الدينين.
فقال السيد أحمد : لا إله إلا الله ، هي الفارقة بين الدينين ، ويا سبحان الله أمثلي يقال له هذا المقال ، وإنما أنت محمول على السلامة ، لكونك ساكناً في البادية ، وفي الحديث : ((من بدا ، فقد جفا)) ، وقد خاطب جفاة الأعراب سيد الخليقة صلى الله عليه وسلم بما كدر خاطره فصبر ، ولنا به أسوة .
ثم قال ناصر: أنت تعتقد نحلة ابن عربي ، وهو يقول : بوحدة الوجود ، ويصوب فعل إبليس لما ترك لآدم السجود ، وقد جعل العلماء المتقدمون سؤالاً في ذلك ، وأجاب علماء الإسلام من أهل عصره وغيرهم بكفره وكفر من اعتقد مذهبه .
فقال السيد أحمد : هذا ابن عربي توفي في سنة ست وثلاثين وسبع مئة ، وبينك وبين زمانه فوق الخمس مئة من السنين ، فهلا شافهك بمثل هذه المقالة حتى تهتك ما حرم الله تعالى عليك من رمي مسلم بالكفر ، ونحن من إسلافه على يقين ، فلا نتتقل عنه إلا بمثله .
فقال ناصر : هذا الاعتقاد مذكور في كتبه صريحاً .
فقال له السيد أحمد : وما أدراك أنه قائله ، والاحتمال قائم على أنه مدسوس عليه من بعض أعدائه ، فاحكم على هذا الكلام أن ضاقت عليك وجوه التأويل أنه كفر ، ولا تحكم على ابن عربي أنه كافر لأنه لا يصح لك طريق شرعية ، تجوز لك الجزم بكفره ، ولو عرفت الحقيقة ما خضت في هذا المجال الذى يضيق عنه عطنك بكل حال ، ولست من رجال هذه الطائفة ، فأهل كل فن يسلم لهم في فنهم ، وأضرب لك مثلاً يليق بالمقام : دخل رجل السوق وعرف مخازنها وبضائعها وأسعارها ، وما اشتملت عليه من أنواع الفواكه والمعاطر وغيرها ، ورجل لم يدخل ذلك السوق فضمهم مجلس فأندفع داخل السوق يحدث بما شاهده فيها ، ويصف ذلك الذي رأه ، والذى لم يدخل السوق يعترض عليه فيما شاهده عياناً ، فهل هذا شأن عاقل ؟ بل يحكم عليه العقلاء بالجهل ، والسفه لأنه اعترض بما لا حقيقة لديه ، وفي مثل هذا انشدوا :
فقال ناصر الكبيبى : وأنت يا أحمد أصحابك يقبلون يديك ورجليك ويخضع لك أصحابك خضوعاً لا يستحقه إلا الله تعالى ، وهذا عين الشرك ، والتذلل من العبادة ، والعبادة لا تصح لمخلوق .
قال السيد أحمد : إن كنت متقيداً بالشرع المحمدي ، فاسمع ما أقول لك : قد صح في الحديث أن وفد عبد القيس لما 1وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلوا يديه ورجليه ، وقد جمع بعض العلماء المحدثين جزءاً لطيفاً في جواز تقبيل اليدين والرجلين ، وأورد أحاديث جمة قاضية بجواز تقبيل أيدي أهل البيت ، وأيدي العلماء وأيدي العلماء من غيرهم .
وأما قولك أن هذا عبادة ، فلو عرفت معنى العبادة ما قلت هذا ، فالعبادة في طريق ، والتعظيم والأدب في طريق، فتعظيم العلماء واجب ، قال الله تعالى (... يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات...) وقد قال صلى الله عليه وسلم : (... ليس منا من لم يعرف لعالمنا حقه ) ومن حقوق العالم : التأدب معه بتقبيل يديه ، ومعرفة فضله ، ومن عظم عالما فقد عظم الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنه حامل للشرع الشريف ، فالتعظيم في الحقيقة لما هو حامله ، وقد ثبت حديث : (( العلماء ورثة الأنبياء )) ، وإذا كانوا ورثة الأنبياء كان للوارث ما للموروث من التعظيم ، كما أن عليه ما عليه من تبليغ الشرع ، على أن في الحديث أن الملائكة لتضع أجنحتها ، فما ظنك بغيرهم ممن لا يداني شيئا من علو شأنهم ؟
وجاء في الحديث القدسي : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال حاكيا عن الله تعالى : (( من أراد أن يكرمني ، فليكرم أحبائي ، فقال يا رب من أحبائك ؟ قال: العلماء )) . وأعلم أن سادات الناس ثلاثة أصناف : الملائكة ، والأنبياء ، والسلاطين ، وكلهم عظموا العلماء ، الملائكة لآدم ، وموسى للخضر ، وعزيز مصر ليوسف ، ومن عظم ما عظمه الله فهو مؤمن ، ومن استهان بذلك ، فهو خارج عن دائرة الإيمان ، والأعمال بالنيات ، فمن قصد بذلك التعظيم امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بتعظيمه فقد فاز بالحسنى ، ومن أراد معتقداً فاسداً ، وظهر لنا وجب علينا إرشاده إلى الصواب ، ولا نقره على ما اعتقاده الفاسد ، والترفع عن تعظيم ما يستحقه العلماء هو من الكبر ، وقد قال تعالى : (( فبئس مثوى المتكبرين )) أي جنهم .
فقال ناصر الكبيبى : أما نحن فعندنا هذا شرك .
فقال السيد أحمد : سبحان الله تعالى أورد لك من الأدلة كتاباً وسنة ، وتقول : هذا شرك ، هذا الضلال البعيد ؟
فاستشاط ناصر من الغيظ ، وقال :إن الشرك تحت هذه العمة ، يعني العمامة مشيراً إلى عمامة السيد .
فتبسم السيد أحمد ، وقال : إن الشرك ما هو في اعتقادك ، فلا يضرنا نسبته إلينا ، وإن كان باعتبار ما عند الله فنحن على قدم راسخ من التوحيد ، وانتم بارك الله فيكم عرفتم هذا النسخ التي يقال ، لها : الأصول والقواعد ، وظننتم أن علم الكتاب والسنة هو ما اشتملت عليه تلك المختصرات ، وهذا من الجهل المركب ، وقد تولى الله تعالى حفظ وشرعه الذي أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلق له علماء دونوه في الدفاتر ، وصار الشرع المحمدي بعناية أهل العلم محروساً من الزيادة والنقصان ، ولو اطلعتم على ما اطلع عليه غيركم من العلم الواسع لظهرت لكم الحقائق ، ومشيتم على أوضح الطرائق ، ولكنكم ضيقتم على أنفسكم ، فضاقت عليكم المسالك ، وقصرتم دين الإسلام على ما عرفتم ، وزعمتم أنكم ناجون وغيركم هالك ، وهذا من ضيق العطن ، وتحجر الواسع والله تعالى سبحانه وتعالى يهدينا وإياكم .