سئل بعضهم عن التوحيد فقال : هو أن تشهد للعالم وجوداً بين طرفي العدم ، بمعنى أن الأغيار والرسوم والأطلال والأمثال والأشكال من العدم وجدت بقدرة خالقها، وآثارها يستحيل عليها الدوام ، وما يصح لها البقاء منها ، فجواز العدم معها ، لأن بقاءها بإبقاء المبقي، ولو قطع عنها البقاء لتلاشت ، وقد قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ).
قال بعض الناس : كل حي ميت إلا الله ، نظيره : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ )، أي مات ، وقال تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )، فإذا عرف العبد أن العالَم بعرض الفنا لم يوطن إلا على كراهتها نفسه ، ولم يطلب فيها راحته وأنسه ، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا سجن المؤمن).
وقد قيل في بعض الحكايات: عن جعفر الصادق أنه قال : (من طلب ما لم يُخلق أتعب نفسه ولم يرزق ، فقيل له : وما ذاك ، فقال : الراحة في الدنيا).
فإذا كان بهذا الوصف دخل عليه الزهد ، فإن من لم تتساو عنده الأخطار ولم يسقط عن قلبه للدنيا الوزن والمقدار ، لم يزل في سجن حرصه وفي أسر نفسه ، وفي رق شهوته، وفي ذل طمعه ، ومن استوت عنده الأخطار ، وصل إلى روح الحرية ، ولهذا قال مشايخ هذه الطريقة : (من دخل الدنيا وهو عنها حر ، ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حر ، ومن كانت بغيته من المطالبات ، فوق ما لا بد له من الضرورات ، فهو عن ربه محجوب).
وقد سئل الجنيد ، رحمه الله تعالى، عمن خرج من الدنيا ولم يبق عليه إلا مص نواة فقال مستشهداً: ( المكاتب عبد ما بقى عليه درهم ).
وحكى عن بنان الجمال أنه قال: (كنت مطروحاً على باب بني شيبة سبعة أيام لم أذق شيئاً فنوديت في سري : "أن من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عين قلبه").
وكان علي الدقاق يقول : {إن القلوب كانت متفرقة في الدنيا فقبضها الله تعالى عنها بقوله: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى )، فلما تعلقت القلوب بالآخرة قطعها الله سبحانه عنها بقوله : ( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )}.
وقال يحيى بن معاذ : (الزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الآخرة). ولا غرو أن يزهد عارف بمن لم يزل في حاصل بعد أن لم يكن إذا صفت همته عن كدورة أمنيته، وتخلص سره عن وحشة حجبته ، وهذا المتنبي قال: من رأس دعواه على سبيل العادة من غير تحقيقه بمعنى ما قال ، وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي ، كشعرة في مفرقي.
وأما من قال : (تبارك) أي تعظم فمن طالع عظمته، وشاهد سلطانه ورفعته، وتحقق علوه وعزته، نسى صولته ، وترك سطوته، فلا يدعي في شئ أنه من حوله وقوته، ولا يرى شيئا بقدرته واستطاعته، واعتصم بعجزه وفاقته.
وقال بعض المشايخ: (إذا عظم الرب في القلب صغر الخلق في العين، وعلامة من صغر الخلق في عينه رؤية الإفلاس ، والتحقق باليأس من الناس ، ولزوم الورع ، وقطع الطمع)، ووقف بعضهم على بعض عقلاء المجانين، فقال: ألك حاجة؟ فقال : نعم، قال: وما هي ؟ قال: تزحزحني عن النار وتدخلني الجنة، قال: ذلك ليس إليَّ ، فقال: لم سألتني عن حاجة لا تقدر على قضائها .
وسئل بعضهم عن التصوف ، فقال ذبح الأماني بسكاكين اليأس ، فها هنا يجد العبد العذر . لهذا قال بعضهم: التصوف التكبر على أهل الدارين ثقة بالله تعالى. وقال بعضهم لرابعة العدوية: إن فلاناً صديقك يريد أن يواصيك بشئ من الدنيا، فقالت: إن صديقنا فلان وفلان وكلنا عبيد ، ومن المحال أن الله يرزقهم ويتركني.
شرح أسماء الله الحسنى للقشيري