فقال: مقدما لما به الحجاب عما به الرؤية؛ لأن معرفة الشيء بضده : (حجبت عنه بك) (حجبت) بالبناء المفعول؛ لأن حجبه حجبًا وحجابًا ستره كحجبه، واللازم منه احتجب ويحجب، والحجاب ما احتجب به أي : سترك الله عن رؤيته، ومشاهدته بقرينة قوله الآتي : (رأيته)، وإلا فكلامه يحتمل تقدير غير الرؤية من المعرفة وغيرها فافهم وتأمل.
ولكن سترك بحجاب هو نفسك أي: رؤيتها بأن جعلك رائيًا ومشاهدًا لوجودك، فصارت رؤيتك حجابًا لك عن رؤيته، فأنت الحجاب والمحجوب؛ لأنه تعالى لا يصح أن يكون حجابًا ولا محجوبًا؛ لأنه المظهر لكل شيء، والظاهر بكل شيء، وفي كل شيء، ولكل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وليس معه شيء، وهو مع كل شيءٍ وأقرب إليك من كل شيء فمن تجليه ظهور كل شيء، وأنت عدم أن الله خالق كل شيء فالكل منه وبه وإليه(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ) (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) كان الله ولا شيء معه الآن على ما عليه كان، فمن العجب أن يكون العدم حجاب العدم، وأن يظهر الوجود في العدم، والنور في الظلمة وقد كان ذلك؛ لأن ظهور النور يكون بالظلمة كما أن ظهورها بالنور، لكن بظهور النور تنعدم الظلمة وبظهورها يستتر النور، وفي الحقيقة لا يظهر بالنور إلّا النور، فظهور الوجود بالوجود لا بالعدم وهذا هو القول ألا قوم.
فالله الله لا موجود إلا الله، بل الوجود هو الله والأشياء صور الوجود، وصورة الشيء ما به يدرك الشيء او يحس، فصح أن الله تعالى خلق العالم على صورته، وخلق آدم على صورته فما دمت أنت احتجبت عنه ولا تراه (ولو فنيت عنك به رأيته معك) أي : ولو فنيت أيها السالك الطالب المريد لرؤيته تعالى عن وجودك وإرادتك بأن ظهر في قلبك نور من مصابرة الأعداء، والمرابطة على ثغر القلب لِيَلَا يدخل فيه الغير.
كما وقع للسلطان أبي يزيد البسطامي قُدِّسَ سرّه حيث صار حجابًا على باب القلب عشرين سنة أو ثلاثينن ومنع ما سواه تعالى من الدخول فيه، فحقّا يقوّى ذلك النور فيفنيك عن وجودك الذهني، ولكن ليس بنفسك، بل به تعالى أي : بإفنائه الأزلي ومن استعدادك الأصلي؛ لأن الفناء اختصاص إلهي غير كسبي حاصل للعين الثابتة في حضرة العلم من الفيض الأقدس الحاصلة به العين، واستعادتها فإذا فنيت عنك بإفناء الحق لإياك يصفى لك الإقبال على الرب، فإذا صفى الإقبال تغيب عن وجودك العين أيضًا ولوازمه فيمتلئ قلبك من نور التوجه فيستره عن رؤية ما سواه تعالى، ثم يسري من الباطن إلى الظاهر، فيعمُّ أجزاء الظاهر فيتشابهان، وحقًّا يخلو قلبك من كلِّ شاغل، وإذا خلا قلبك من الشاغل رأيته معك، وتتحقق حقًّا بقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، فتصير واحداً للواحد الأحد، فتكون حقّا موحدًا حقيقة؛ لأنك أفردت القديم الحادث، ولا يصح التوحيد إلّا بهذا قال العالم الرباني سيد الطائفتين الجنيد البغدادي قدس سره لما سُئل عنه : إفراد القديم من المحدث. ثم أيد القول السابق بالكلام اللاحق تنهيضًا للسالك الصادق.