لاشك أن التصوف الحق، هو اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداء الفرائض، وتوفية الأعمال، وتصفية الأحوال ([1]) , قال أبو الحسن الشاذلي: من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بدعي.
يأتي هذا المقال في سياق التأصيل لقضية جوهرية في التصوف، ألا وهي "مسألة الذكر ", والتي سنعمل على تأصيلها من الكتاب والسنة، وبيان ما للذكر من قيمة كبرى في حياة الصوفي، مع التركيز على نظرة المغاربة.
ذلك أن التصوف الإسلامي في المغرب هو تصوف عملي أخلاقي، ليست فيه الشطحات الموجودة في المشرق([2]) , لذلك حافظ المغاربة على نقاء التصوف في منبعه الأول وهو الكتاب والسنة.
ومن ثم, حرص المغاربة على الأذكار النبوية, واعتنوا بها أيما اعتناء, إذ لا يصل إلى الله تعالى إلا من دوام على ذكره عز وجل، والذكر هو أخص ما اختص به الصوفية وعُرفوا به.
فما هي مرجعية الذكر من القرآن والسنة؟ وما مكانة الذكر عند المتصوفة ؟
تأصيل الذكـر
رغم التحريف الذي أصاب التصوف([3]) في العصور المتأخرة, فقد بقي قدر مسلم مقبول، تتفق عليه جميع الطرق الصوفية([4]) , وهو قدر نقي صاف لا تشوبه شائبة, قائم على الكتاب والسنة واتباع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه جميع أئمة التصوف, سواء في باب التوحيد أو في باب الاتباع وترك الابتداع. و للسلوك أركان كثيرة, أهمها : الذكر - والتخلق والصحبة.
فما أصل الذكر؟
الذكر لغة هو ضد النسيان، وحقيقته من الشرع هي قيام معنى التوحيد في النفس حتى يصير صفة لها ، لا تغفل عنه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت".
والذكر لا يكون إلا على هدي النبي الكريم، وقد تنبه الصوفية لهذا الأمر، فكانوا أحرص الناس على التزام السنة, فطريق القوم لا يتم إلا بعلم وهو الأساس, وعمل وهو البيان. ولهذا كان السالك طريق التصوف, إذا لم يسلك بعلم يوافق الشريعة اعتُبر ضالا عن الطريق, وكان هلاكه أقرب من نجاته، قال تعالى وهو يحث المؤمنين على الذكر: "يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا".([5])
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجتمع مع أصحابه رضي الله عنهم أدبار الصلوات الخمس للذكر، ويرفعون أصواتهم بذلك, حتى قال عمر رضي الله عنه:" كنا نعرف إذا انصرفنا من المكتوبة برفع الصوت بالذكر([6])".
فأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى هو طريق الذكر. ولا شك أن سبب اجتماع الفقراء / المتصوفة, هو الإقبال بهمة عالية وحب كبير على ذكر محبوبهم وهو الله سبحانه وتعالى. لذلك لا عجب أن يمن الله عليهم بحب الناس لهم بل وحب كل من يرآهم.
قال سبحانه: "فاذكروني أذكركم"([7]) والذكر ينيل المغفرة والأجر، قال جل جلاله: " والذاكرون الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما"([8]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله : قال : ذكر الله"([9])
وروي أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني بأمر أتشبت به ، قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله([10])
إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من الدليل على شرف الذكر وفضله ورفيع درجته، ولذلك جعله أهل المعرفة وسيلة إلى الله تعالى، فلازموه وحافظوا عليه.
أنـواع الذكــر
1- الاستغفار:
دليله من القرآن قوله تعالى: "استغفروا ربكم انه كان غفار"([11]) . وقوله عز من قائل:"واستغفر لذنبك"([12]). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تحث على ذكر الله.
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب"([13]) .
2- التصلية على الرسول (صلى الله عليه وسلم)
وأما ذكر التصلية: فدليله من القرآن قوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا وسلموا تسليما"([14]) ومن السنة قول النبي عليه السلام: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"([15]).
3- التهليل
وأما ذكر التهليل: فدليله من القرآن قوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلى الله"([16]) ومنالسنة قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " أفضل ما قلته أنا والنبيئون من قبلي: لا إله إلى الله "([17]).
4- التنزيه
وأما ذكر التنزيه: فدليله من القرآن قوله تعالى: "فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين"([18]) ومن السنة قول النبي عليه السلام: "ومن قال سبحان الله وبحمده مائة مرة،حطت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر"([19]).
5- الإفراد
وأما ما ذكر الإفراد، فدليله من القرآن قوله عز من قائل : "قل الله ثم ذرهم في خوطهم يلعبون([20]) " وقوله تعالى: "ولذكر الله أكبر"([21]).
هذه الأذكار الخمسة هي أصل سائر الأذكار التي يستعملها الصوفية, وكما سبق البيان, فهي من نبع القرآن والسنة، وبعدما أثبتنا ذلك، بقي لنا أن نعرف الذكر عند القوم.
الذكر عند صوفية المغرب
الذكر عند صوفية المغرب كما يذكر الشيخ ابن عجيبة الحسني: "ركن قوي في طريق الوصول، فذكر العامة باللسان, وذكر الخاصة بالجنان, وذكر خاصة الخاصة بالروح والسر، وهو الشهود والعيان، فيذكر الله عند كل شيء. وعلى كل شيء، أي يعرف الله فيه"([22]).
ما أعظم ثمرة الذكر, وما أجل شأنها, فالذكر من أعظم الوسائل إلى المعرفة بالله تعالى، وأشرف الطرق الموصلة إليه. ونجد من الصوفية([23]) من يأصل للذكر باعتبار الذاكرين, فيجعله على قسمين, ذكر أجور وهو ذكر العامة وذكر حضور وهو ذكر الخاصة.
أما ذكر الأجور، فهو أن يذكر الإنسان الله تعالى بما شاء من الأذكار لا يقصد به إلا نيل ما وعد الذاكرين من الأجر وأعد لهم من الثواب، من غير التفات لما وراء ذلك.
وأما ذكر الحضور: فهو التزام أذكار معلومة بحسب أحوال مخصوصة، بل سبيل الاستشفاء من علل النفس، والخلاص من أمراض متعلقاتها، ليخرجها عن الأخلاق الذميمة ويحليها بالأخلاق الحميدة، وهو على ثلاثة أقسام:
1- ذكر اللسان : في مقام الإسلام، وهو قيام اللسان بحركة لفظه مع متابعة القلب لما أمكن من معناه.
2- ذكر القلب : في مقام الإيمان, وهو تمكن معنى الذكر في القلب حتى لا ينفك عنه، مع متابعة اللسان لما أمكن من لفظه.
3- ذكر الروح : في مقام الإحسان، وهو الاستغراق في سر التوحيد مشرفا على حقائقه بما نال الروح من الخلاص من الأوهام الجسمانية والطهارة من الآفات الطبيعية حتى لا يغيب عن معنى الذكر لمحة.وبذلك فإن الصوفي يرتقي في مقامات الذكر، لأن ذكر اللسان يحرك الفكر لتدبر معناه، وتدبر معناه يحرك النفس للاتصاف بمقتضاه, واتصافها بمقتضاه يؤذن بطهارتها وتصفيتها، وطهارتها وتصفيتها سبب للورود على عين الحقائق, ومطالعة الاسرار مشاهدة, حتى "يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل"([24]) .
والصوفية من أكثر الناس تذوقا لحلاوة الذكر، فيميزون بين جميع صيغ الذكر "فالله أكبر": طرد لعلة استكثار النفس عدد الخلق عند بروزهم واستكبارها بإظهار التجمل.
و"سبحان الله": إخماد لعلة النفس في انفعالها لما ظهر على الخلق من تحولهم من حال إلى حال . و"الحمد لله": محو لعلة النفس في نسيان المنعم بالنعم، لتقوم بحق المحسن المنان. و"لا حول ولا قوة إلى بالله " إخراج للنفس من علة الركون إلى تدبيرها في تصرفها([25])".
فاستعمال الأذكار يكون بحسب الأحوال، وذلك ما تؤكده السنة النبوية، حيث يستعمل كل ذكر في المواطن الخاصة به، من حمد وشكر وبسملة، وحسبلة وحوقلة، وغير ذلك من الأذكار, نفيا لعلل النفس لتتحلى بالصفات الحميدة. وذلك من الحكمة التي من نالها فقد نال الخير الكثير. وليس من الحكمة وضع الأشياء في غير محلها.
خاتمة:
من خلال ما سبق، يتبين أن الذكر عند صوفية المغرب، لا يخرج عن نطاق ما جاء به القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، كما يوضح ذلك فهم المغاربة للذكر ونظرهم إليه.
وإن كانت العامة ممن لا حظ لها في العلم والذوق، تروج بعض الضلالات باسم التصوف، فقد تبرأ منها أئمة العلم والمعرفة, وكتب القوم شاهدة على ذلك مثل كتب الشيخ أحمد زروق وغيره, والطرق الصوفية وإن تعددت, فإنما المقصد واحد هو التقرب إلى الله تعالى ونيل رضاه.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
نقول هذا، ونحن نأسف لما بين الصوفية ومن يدعون السلفية اليوم من صراع وعداء, يلحق بالإسلام أذى كبيرا وتشويها لصورته ومكانته, خاصة عند الأمم الأخرى التي بدأت تتداعى على أمة الإسلام وتتربص بها الدوائر.
** ** **
مقال منشور بجريدة "نفحات الطريق" العدد 12، أبريل 2012.
[1] - د. عبد الكبير العلوي المدغري ، مصادر العلوم في الفكر الصوفي ، درس ديني ألقي بحضرة الملك الحسن الثاني رحمه الله، بتاريخ 26 فبراير 1993 ص 23.
[2] - د. عبد الله معصر ، محاضرات لكلية ماستر التصوف في الأدب المغربي الفكر والإبداع ، الفصل 2 ، الموسم الجامعي: 2008-2007.
[3] - ذهب الناس مذاهب شتى في تعريف التصوف حتى ابن السبكي في طبقاته ج 3 ص 239) ألقى تعريف للتصوف سهر على التقاطها من مختلف المصادر أبو منصور عبد القاهر البغداي ورتبها تبعا لأصحابها على حسب الحروف الهجائية ، نكتفي بتعريف أبي الحسن الشاذلي: "التصوف تدريب النفس على العبودية وردها لأحكام الربوبية".
[4] - د. عبد الكبير المدغري ، مرجع سابق ص 25.
[5] - الأحزاب: الآية 41.
[6] - أخرجه البخاري من رواية ابن عباس ، في كتاب الآذان ، باب الذكر بعد الصلاة ، حديث (841).
[7] - البقرة . الآية 152.
[8] - الأحزاب ، الآية 41
[9] - أخرجه أحمد : ج 21696 . والترمذي : ج 3474.
[10] - رواه الترمذي في الجامع : 3435 . وابن ماجة : ح 3793 . والبيهقي : 3/371
[11] - نوح ، الآية 10.
[12] - غافر: الآية 55.
[13] - أخرجه أبو داود : ح 1504 ، والبيهقي في السنن الكبرى : 3/151والحاكم في المستدرك : 4/261.
[14] - الأحزاب : الآية : 56.
[15] - رواه الترمذي : ج 482.
[16] - محمد الآية 19.
[17] - أخرجه مالك في الموطأ : 1/214.
[18] - الحجرات : الآية : 78.
[19] - متفق ، أخرجه البخاري . ج 6405.
[20] - الأنعام : الآية 91.
[21] - العنكبوت : الآية 45.
[22] - معراج التشوف إلى حقائق التصوف ، ضمن كتاب شرح صلاة القطب بن مشيش ، سلسلات نورانية فريدة تأليف أحمد بنعجية السلسلة الأولى ، جمع وتقديم : العمراني الخالدي عبد السلام . دار الرشاد الحديثة – الطبعة : 1، 1999، ص:81.
[23] - يتعلق الأمر بـأبي عبد الله الساحلي المالكي الأندلسي ، صاحب بغية السالك في أشرف المالك ، تحقيق . د عبد الرحيم ، منشورات وزارة الأوقاف ط. 1 2003 م.
[24] - بغية السالك في أشرف المسالك ،مرجع سابق، ص 148.
[25] - المصدر نفسه ص 157.