فلئن كانت هذه الرياضة مدَارها "مراقبة الأنفاس" يتخدها قانون التَّعَبُّد الصوفي دُعامة روحية يتكئُ عليها؛ قد تقرَّرت كما رأينا لديهم في مجاهداتهم وآدابهم وفي عباداتهم وأذواقهم الشهودية، فما هي مصادرها ؟ وهل هي وسائل أم غايات ؟ ومن أين استقى الصوفية هذه الرياضة التي دار خلاف حول الباحثين بصددها ؟ أهي ذات أصول إسلامية لها شواهد من الكتاب والسنة أم كانت مصادرها أجنبية غريبة عن مضمون الدين الإسلامي ليست تمٌتُّ إليه بأدنى صلة ؟! وإن زعم لنا الزاعمون أن لهذه الرياضة وجهاً من وجوه العبادة في الإسلام، فأين هو المبرر الشرعي الذي دَفع الصوفية أن يسلكوا مثل هذا التسليك الروحي ؟!.
مثل هذه التساؤلات يمكننا الإجابة عنها فيما نحن قادمون عليه كلما أطلنا الرؤية على بساط التحليل وقوفاً عند مراقبة الأنفاس، وعلمنا بالقطع أن اختلاف الباحثين فيها مَرَدُّه - ولو فيما نراه نحن - إمّا متابعة اللاحق للرأي السابق مُجرَّد المتابعة وكفى او مجرَّد التقليد في وجهة النظر. وإما لقلة حظ الباحثين ممن تطرقوا بالإشارة من قريب أو من بعيد إلى هذا الموضوع أقول؛ قلة حظهم من العناية بأصوله ومصادره، ومراقبة تطوراته النفسية في الشعور الصوفي خاصَّة وفي الحق. لقد اختلف الباحثون في هذه العبادة أو قُل "الرياضة" : أهي ذات أصول إسلامية أم هي ترتد إلى جذور هندية مُورِسَت في التصوف الهندي وانتقلت على يد الشيوخ إلى الأجواء الإسلامية، بعد أن عُرِفَتْ في الثقافة الروحية الهندية برياضة "قطع الأنفاس" ؟!.
ربما كانت رياضة "قطع الأنفاس" لها أصولها الهندية، وقد تعلمها أبو يزيد البسطامي لما أن أخد عقيدة الفناء الصوفي عن شيخه أبي علي السّندي الذي علمه الطريقة الهندية التي كانت تعرف ب "مراقبة الأنفاس"، وهي طريقة هندية بوذية، ذكرها أبو يزيد البسطامي - كما يرى نيكولسون - تحت اسم "عبادة العارف"، إذْ كان جد البسطامي "سَرُوشان" زردشتياً مجوسياً فأسلم؛ وكان شيخه في التصوف كردياً.
وإنا لواجدون البيروني (444ه) حين عرض لكيفية الخلاص من الدنيا وصفة الطريق المؤدي إليه، يرى مُشابهة وطيدة بين أقوال الصوفية في الاشتغال بالحق، فقالوا ما دُمتَ تشير فلَسْتَ بموحِّد حتى يستولي الحق على إشاراتك بإفنائها عنك، فلا يبقى مشير ولا إشارة. وذهب البيروني إلى أنه : يوجد في كلام الصوفية ما من شأنه أن يدل على الاتحاد ... كجواب أبي يزيد البسطامي وقد سُئل : بمَ نلتَ ما نلت ؟ فقال : "إني انسلختُ من نفسي كما تنسلخُ الحية من جلدها ثم نظرت إلى ذاتي فإذا أَنا هُوَ".
ويرى البيروني أن الصوفية قالوا في قول الله تعالى : " (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا)، أن الأمر بقتل الميت لإحياء الميت، إخبار أن القلب لا يحيى بأنوار المعرفة إلا بإماتة البدن بالاجتهاد حتى يبقى رسماً لا حقيقة له، وقلبك ليس عليه أثر من المرسومات. وقالوا : إن بين العبد والله ألف مقام من النور والظلمة، وإنما اجتهاد القوم في قطع الظلمة إلى النور؛ إلى آخر ما وجده البيروني مثشَابهاً بين صوفية الإسلام وعقائد الهنود.
ومن المحقق عندي أن نيكولسون استند إلى رأي البيروني في هذه المقارنة الجائرة فيما عَقَدَه بين وسائل الصوفية المسلمين في الطريق إلى الله وعقائد الهنود، وتابعه كما تابع هو البيروني عديد من الباحثين العرب؛ الذين غرموا بمتابعة المستشرقين فيما خرَّجوه من آثار فكرة التأثير والتأثر عموماً، مع الولع الشديد بتطبيقها على نصوص التصوف الإسلامي، وفي القول بأن هذه الرياضة هندية في الأساس، ولم يكن لها من الشواهد في مضمون الدين الإسلامي ما يؤديها. فليس في الإسلام ما من شأنه أن يسمى برياضة قطع الأنفاس بلا هدف ولا غاية، وهي وإن كانت موجودة عند صوفية المسلمين، غير أنها ترجع إلى أصل هندي؛ وإنهم (أي المسلمون) قد عرفوها منذ القرن الرابع الهجري، وليس القرن الثالث الهجري، ولم يكن لها شواهد من القرآن الكريم أو الحديث الشريف.
ومن الواضح أن نيكولسون استخدم في نصه المذكور سلفاً حين كان يتحدّث عن عقيدة الفناء الصوفي عند البسطامي والتي أخدها عن أبي علي السندي الذي عَلَّمه الطريقة الهندية المعروفة ب "مراقبة الأنفاس"؛ استخدم نيكولسون لفظة "مراقبة الأنفاس"، ولم يستخدم رياضة "قطع الأنفاس"؛ لماذا ؟! لتوحي الكلمة المستعملة بتأثر صوفية الإسلام بالهنود، وتأثير التصوف الهندي في هذه الرياضة مباشرةً في صوفية الإسلام، وهذا عندي غير صحيح بالمرة، لغفلة القائلين به عن المضمون. غير أنه يستخدمها لتشي عنده بأن الصوفية المسلمين استقوا هذه الرياضة من الهنود متابعة لرأي البيروني؛ ومن ثمَّ يحقُّ لمن شاء حين يشاء أن يرى أن الإسلام نفسه لم تكن فيه مثل هذه الرياضة : مراقبة الأنفاس. ولقد كان الأحرى به أن يستخدم كلمة رياضة "قطع الأنفاس" - لا مراقبتها! - لأن رياضة قطع الأنفاس التي هي الغاية من الفناء الهندي والوصول إلى مرتبة النيرفانا (Nirvana) لهي في عينها التي يقصدها نيكولسون.
وقد كنتُ أنا شخصياً في دراسات سابقة منذ عهد بعيد واحداً ممن تابعوا هؤلاء الأساتذة الكبار، فلم أكن إذْ ذاك؛ نظراً لقلة الخبرة بإشارات العارفين، أهلاً للرد على ما كان هؤلاء الأساتذة الكبار قد توصلوا إليه، وذلك حين نقلت عن أبي القاسم الجنيد إشاراته التي ذكرتها عنه سلفاً في مطلع كتاب"السر في أنفاس الصوفية" :"إن الله خلق القلوب وجعل داخلها سرَّه، وخلق الأنفاس، وجعل مخرجها من داخل القلب بين سر وقلب، ووضع معرفته في القلب وتوحيده في السر، فما من نفس يخرج إلا بإشارة التوحيد على دلالة المعرفة في بساط الاضطرار إلى الربوبية. وكل نفس خلاف ذا، فهو ميت صاحبه مسؤول عنه"؛ وقلتُ بالحرف إذْ ذاك : "فيشير كلام الجنيد رحمه الله إلى مراعاة الأنفاس وحفظها من تشويش الغفلات، فلا حياة لنفَس يخرج ولا يعرف معنى التوحيد ولا يدري معنى التنبيه إلى معرفة الله، وإنما الحياة الحقة لصاحب النَّفَس الذي يوظفه صاحبه خدمة للغاية التي خلقها الله له (معرفة الله)؛ فكأنما جاءت هذه المراقبة للأنفاس وسائل لغايات شريفة تتحقق بها آداب العبودية بمقدار ما تقود إلى المعرفة والسعادة، ولم تكن في ذاتها بالغاية، بسبب أن غاية الصوفي حقيقة هي معرفة الله.
أما رياضة "قطع الأنفاس" من غير هدف ولا غاية سامية، وإن كانت موجودة عند صوفية المسلمين، فهي ترجع إلى أصل هندي، وإنهم عرفوها منذ القرن الرابع الهجري وليس القرن الثالث، ولم يكن لها شواهد من القرآن أو الحديث الشريف".
أما اليوم فأنا أُخطِّئ هذا الرأي بمقدار ما أخطّئ متابعتي له، وأميل ميلاً جارفاً إلى القول بما يقوله الصوفية أنفسهم؛ من اعتبار حفظ الأنفاس وحراستها ورعايتها أساساً من أسس التصوف في الإسلام على أقل تقدير في توجهاته العملية، بمقدار ما هي سبيل من سُبل الفناء في التوحيد، تتصل هذه الرعاية كما يتصل هذا الحفظ بالمراقبة لله في السر والعلن كما أرادها الصوفية وكما كتب فيها أكثر كتَّبهم.
صحيح أن هنالك عبارات وإشارات يستخدمها البسطامي توحي من الوهلة الأولى للقارئ العابر بإضفاء المصدر الهندي مباشرة إلى أبي يزيد البسطامي، ليس يسهل صرف النظر عنها إلى غيرها اللهم إذا حملناها غير ما تحتمل ووجهناها توجيهاً ليس هو التوجيه الذي يقصده البسطامي فيما لو أخدنا ظاهر تلك العبارات والإشارات بمنهج الأشباه والنظائر. فقد روى الغزالي أن أبا يزيد البسطامي قال : "مكثت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما. فإذا في وسطي زنَّار، فعملت في قطعه، فكشف لي؛ فرأيت الخلق موتى فكبرتُ عليهم أربع تكبيراتّ".
فالزنّار الذي عمل أبو يزيد في قطعه هو حزام يستعمله رهبان النصارى والمجوس، وقد أثبت البيروني : أن كهنة البراهمانية كانوا يأخدون بزي خاص فيشدُّون "الزنار" منذ الصغر، ويتميزون بالثوب الأحمر، ويطيلون شعورهم ويدهنوها ...
وأبو يزيد البسطامي نفسه هو القائل :"إذا وقفت بين يدي الله، فاجعل نفسك كأنك مجوسي تريد أن تقطع "الزنار" بين يديه".