الإشارة: المحبةُ: مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وقال الشِّبْلِي: أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك.
والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّناً بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغموراً في مشاهدته، والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون...) إلخ كلامه.
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان:
أحدهُما: نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها، وهذا هو المسمى بحب الهوى، هو مكتسب، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه، ومتمكن من النظر فيها، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وزداد إيماناً، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ، وظهر له خفايا المنن، وعظمت محبته.
الثاني: كشْف الحجب، وإزالة الموانع عن ناظر القلب، حتى يرى جمال الحقّ وكماله، والجمال محبوب بالطبع، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية- رضي الله عنها-:
أُحِبُّكَ حُبَّين حُبَّ الهَوَى *** وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ
فأمَّالذي هو حُبُّ الهَوى *** فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ *** فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ
فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي *** ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ
وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول، وإن كان أهلاً للجميع؛ لأن هذا منه إليه، لا كسب للعبد فيه، والآخر فيه كسب، وعمل العبد معلول، وقولها: (فشغلي بذكر عمن سواك) من باب التعبير بالمسبب عن السبب، والأصل: فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا، وقولها أيضاً: (كشفك للحجب حتى أراك)، من باب التعبير بالسبب عن المسبب، والأصل، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي. وقولها: (فلا الحمد...) إلخ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه في الحقيقة، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة، بل هو الحامد والمحمود، وإدراك التفاوت بين المقامين،- أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان، والناشئة عن شهود الجمال- ضروري عند كل ذائق، وأن الثانية أقوى. قاله في شرح الشريشية.
قال ابن جُزَيّ: اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين؛ أحدهما: المحبة العامة، التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنَّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف والرجاء والتوكل، وغير ذلك، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
واعلم أن سببَ محبةِ الله: معرفتُه، فتقوى المحبة على قدر المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال؛ فالموجب الأول: الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} [إبراهيم: 34]، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي، وإلا المؤمن والكافر، وكل إحسان ينبس إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجد في طاعته، والنَّشَطِ لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأُنْس بذكره، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحب الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبي: (المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك، ثم موافقته سرّاً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه).
قلت: ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً، بخلاف المحبة، فإنها تكون بقية الحجاب، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء.
قال في الحِكَم: (إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء). وأيضاً. العارف أكمل أدباً من المحب؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها، والله تعالى أعلم.
تفسير ابن عجيبة