درَّةٌ يتيمةٌ فى لُجَّةٍ عظيمة
فإذا عثرتَ على كيفيَّة التَّجلي من الحقِّ بصفاته، انفتح لك بابٌ إلى تلك الحكمة من حيث الذَّوْقِ، فحينئذ تعرف معنى قول الشيخ عبد القادر الجيلانى رضى الله عنه حيث يقول : " كلُّ الأولياء وصَلوا إلى القَدَرِ، فوجوده مُصَمَّتاً، فوقفوا إلاّ أنا، فُتِحَت لي فيه رَوْزَنَةٌ فولجتُ فيها، فدافعتُ القدَر بالقدَرِ".
الكنزُ الخفيُّ
يا هذا أما علمتَ أن الحق تعالى له كمالات لا يعرفُها غيرُهُ، وأن تجلِّيَهُ الذاتيِّ لا يسَعُه الوجودُ بأسرِه، فلا يظهرُ بكماله إلا لذاته وفى عِلمه، فلا يطيق الوجود كمال ظهوره بالكُنْهِ والذّات، بل ولا بكمال الأسماء والصفات، فلِم أنتَ تحبُّ منك ظهوِر ما تجده فيك، وذلك مُحالٌ لضيق الكوْن عن ذلك.
فإياّك ثم إيّاك أن تطلُبَ ما لا يُمكنُ فإنه غير لائقٍ بك.
وتحت هذا الكلام سرٌّ جليل لو وقفتَ عليه لعرفتَ الأمر الذي لا تَسعُهُ العبارات ولا تحملهُ الإشارات، ولكن قد انجلى عليك باطنُك بكلِّ معنى من معاني الكمالات الإلهيَّة التى تظهرُ فى الكوْنِ، والتي تختصُّ بالحقِّ فافهم.
واعلم أن الكمالات المُتعيِّنة لك فيكَ منها : ما يختص بك بكل معنى دون كل أحد، فكمال تجليها فى علمك لك. ومنها : ما يمكنُ ظهوره فى العالَم بضربٍ من الحكمَةِ، فَأْتِ البيوت من أبوابها.
الكبريت الأحمر
اعلم أن ذاتَك هى المشارُ إليها بجميع الكمالات، وعينك المسمَّاةُ بجميع تلك الأسماء والصفات، فلا تتصنَّع ولا تتعمل. فالاستجلابُ حجابٌ، والآلة شُغل بغيرٍ، والرجوع إلى الأصلِ أسمال للفرع، كلُّ هذا دَوْرٌ وتضييعٌ.
والطريق ميزان، فتحلى بما لك، إذا كان كل الكمال كمالك، قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه : "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ" وكان أبو سعيد الخراز رضى الله عنه يتمثل بهذا البيت:
فأثبتَ في مُستنقَعِ الموتِ رِجلَهُ وقالَ لها مِن دونِ أَخْمُصِك الحَشْرُ
فَهِمَ ذلك من فَهِمَهُ، وعَلِم ذلك من علمَه، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
إشارة إلى سرٍّ لا تَحْتَمِلُه العبارةُ
هاتِ عرِّفنى أين تجدُ المعانى الكماليَّة التى عبَّرت عنها بالأسماء والصفات ثمَّ نسبتها إليه ؟ ثانياً : فإن قلت لي وجدتُها فى علمي، أو قلت : فى عقلي، أو قلت : فى قلبي، أو قلت : فى خيالي، فكلُّ ذلك جواب صحيحٌ سائغٌ، لكني أقولُ أنَّ علمَكَ لذاتِكَ في ذاتك لم يَحُلَّ فيه شىءٌ غيرك، بل تتعيّنُ فيه أنتَ بجميع معلوماتك؛ لأن العلم لا يحُلُّ في العالِم ،هذا أصل لا خلاف فيه، وإلا كان يلزمُ من ذلك أن الله تعالى تَحُلُّ فيه معلوماته وذلك محال،.
فإذا علمتَ أنه علمَك وإن شئت قلت : عقلك، وإن شئت قلت : قلبك، وإن شئت قلت : خيالَك، كلُّ واحد من ذلك عبارة عن وجه من وجوه ذاتكَ، وجميعُ ما فيه عينُك، وقد وجدتَ فيه ما وجدتَ من ذلك الكمال والجمال والجلال والأسماء والصفات والعين والذات علمتَ أنك عينُ المطلوب والحبيب والمحبوب.
فتأمَّل هذه الكمالات فإنها يتيمة الدَّهر لم يضعها أحدٌ قبلى فى كتابٍ، وهى من المعارف المسماة بِلُبِّ الُّلبَاب.
ضَرْبُ مَثَلٍ على وجه الجَدَلِ لَمَّا عَرَجْتُ ونزَلتُ
قال بعض الفقراء : جذبتُ من عالَم الأيْنِ إلى حضرة العيْنِ، فوجدتُ المطلوب قريباً والمحبَّ حبيباً، فقلت له أيها الأمرُ العالي والشأنُ الغالي أستأذنك فى السؤال عن الفرق بين حالك وحالي، فقال : سل لتُجاب واعلم أنه لا فرق بيننا إلا فى الألقاب، فقلتُ : ِلمَ أنت ذو القدرة والعزّ وأنا ذو الذل والعجز ؟ فقال : لأنك مظهري فى عالَم الأيْن، وأنا مظهركَ فى حضرة العين، فقلت : لِمَ كان مظهرى هو العالى اللطيف ومظهرك هو الدون الكثيف ؟ قال : لأنى حقيقتك وأنت حقيقتي، وحقيقتك هى الثابتة الوجودية، وحقيقتى هى الفانية الحُكْمِيَّة، وعن قليل أزولُ وتبقى، فيزهقُ الباطل عندما تجيء حقاً، أمَا علمتَ أنك مرآتى وأنا مرآتك، والمؤمن مرآة المؤمن، فالموجود فيَّ صفاتُك، والموجود فيكَ صفاتي، وصفاتك هي الموجودة الكاملة ،وصفاتى هي المفقودة الزَّائلةُ، فلهذا إذا رأيتنى وجدتنى بحرَ الكمال، ومَعدِنَ الجمال والجلال، وإذا رأيت نفسك وجدتها محلَّ التغيُّر والحدثان، ومعدن النقص والزوال باللسان، ولو وُفِّقْتَت لإسقاطي رأساً ما كان عليك جناح ولا بأس، وكنت حينئذ ترى فى ذلك من الكمالات ما كنت تحسبه في ذاتي، ويسقط عنك من النقائص ما كنت تظنه من صفاتك وهى صفاتى، فبِزَوالي تزول الاثنينيَّةُ والإشراك، ويَفْلِتُ صيدُ الأحديَّةُ من رَبْطَةِ الأشراك، وهذا لعمرى سم قاتل إلا لمن كان له قلبٌ قابلٌ.
دَعِ الوقوفَ معَ الآلاتِ والعِلَلِ واحْذَرْ مِنَ القَيْدِ بالأعلامِ والطَّلَلِ