آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (10)

وقد مثَّل الغزالي النفس في ورود العلم عليها من الجهتين بمثالين : 

أحدهما : بالحوض الذي يرد عليه الماء تارةً من أنهار تورده عليه من خارج، وتارةً ينبع فيه من فوهة بأسفله سدّها التراب وغطاها، فالحواس والفكر في حق أهل الاكتساب كالأنهار للحوض، والتصفية والمجاهدة في حق أهل الإلهام كإزالة التراب عن منبع الماء بأسفل الحوض.

والمثال الثاني : بصناع الهند والصين لما أمروا بنقش حائطين متقابلين من بيت الملك، ورسم الأشكال فيها؛ وكيف اشتغل فعلة الهند بالتصاوير المحكمة، والتماثيل الموهمة، والرقوم البديعة. واشتغل فعلة الصين بصقل الحائط المقابل لهم، وبينهما حجاب منسدل حتى أتوا على آخر عملهم فقيل لفعلة الصين : ما فعلتم أنتم ؟ قالوا : أكملنا، فلما قيل : هاتوا برهانكم، وأزيل الحجاب الحائل انطبعت نقوش أهل الهند وتماثيلهم بأجمعها في الصقل المقابل، فكانت أتم جمالاً وأحسن محاكاة.

وهذان المثالان وإن لم يفيدا برهاناً عند الجميع، فإنهما يفيدانه عند ذوي الطبع السليم والبصيرة النافذة، والذوق الصحيح، مع أنه لا برهان يشهد للقوم على علم الإلهام وصحة وجوده أوضح من الرؤيا.

ثم نزيد ذلك بياناً وشرحاً فنقول : إن الله سبحانه لما خلق هذا الخلق لم يبرزه إلى الوجود الحسي دفعة، بل درجة في أطوار، فأودعه أولاً بجميع حقائقه وذواته : كبيرها وصغيرها، جميعها ومفترقها في كتاب سمَّاه اللوح، وسمّى إيداعه القلم حسبما تشهد بذلك ظواهر القرآن، ففي ذلك اللوح حقائق ما كان او سيكون أو هو كائن إلى يوم القيامة، ثم أبرزه من ذلك اللوح إلى الوجود الحسي على تدريج في الكون معلوم فلا  نطول به.

ولما فطر هذه اللطيفة الربانية على الاستكمال بالمعرفة والعلم بحقائق تلك الموجودات وصفات موجدها جعل لها جانبين : 

جانب تجاه الوجود الحسي يؤدي إليها صور تلك الموجودات ينتزعها الحس من الموجودات انتزاعاً، ثم يجرد العقل معانيها تجريداً، ثم يرتبها الخيال والفكر ترتيباً مفيداً، وجانب تجاه ذلك اللوح، يتعرض به إلى انطباع صور تلك الموجودات فيه، ثم كانت الصفات البشرية والأحوال البدنية مانعةً من ذلك الانطباع وحائلةً دونه، وحجاباً بين اللوح وبين تلك اللطيفة، فإذا ارتفع الحجاب بالتصفية والتخليص من الكدورات وقع الإدراك على أتم الوجوه، وكان أكمل من الإدراك بالجانب الآخر، إذ الحس والخيال غير مأمون على انتزاع الصور والحقائق من الموجودات الحسية حتى تؤديها كما هي، وليس الفكر أيضاً بمأمون على تجريدها وترتيبها الترتيب الذي يفيد تصورها، إذ هما آلتان وواسطتان لهذه اللطيفة في إفادة مالها من ذاتها، واللطيفة بنفسها مأمونة على انطباع الصور في ذاتها؛ لأن ذلك لها من ذلك لها من ذاتها، فتحصيل مالها من ذاتها بذاتها أوثق من تحصيله بغيرها، والثقة فيه بنفسها أولى من الثقة بغيرها، فلهذا كان إدراكها من هذا الجانب أوضح، ولهذا كان أفلاطون وهو كبير الحكماء وكبير المتصوفة الأقدمين، لا يرى من مدارك العلم الكسبي الحائمة على العالم الروحاني برهاناً قطيعاً ويقول : إنما يوصل بها إلى الأولى والأخلق، فجعل العلم الكسبي مع الإلهامي بمثابتة الظن مع العلم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية