القول فيما سمت إليه همم القوم من المجاهدة وما حملهم عليها من البواعث، وكيف غلب اسمُ استعمالِهِم التصوف في مجاهداتهم الأخرى، واختص بها عند الكافة، وانتقل إليها عن هذه المجاهدة الأولى وتحقيق هذه الطريقة.
ولتقدم قبل ذلك مقدماتٍ كاشفةٍ عن حقيقتها :
المقدمة الأولى : في الإشارة إلى معنى الروح، والعقل، والقلب، وما هو الكمال اللائق بها.
اعلم أن الله سبحانه خلق هذا الإنسان مركباً من جثمان ظاهرٍ، وهيكل محسوسٍ وهو الجسد، ومن لطيفة ربانية أودعه إياها وأركبها مطية بدنه، وهذه اللطيفة مع البدنِ بمنزلة الفارس مع الفرس، والسلطان مع الرعية، تُصَرِّفُ البدن في طوعها وتحركه في إرادتها لا يملك عليها شيئاً، ولا يقدر على مُعاصاتِها طرفةَ عين، لِمَا مَلَكَهَا الله من أمره، وبثَّ من قُواها فيه، وهي التي يعبَّرُ عنها في الشَّرع تارةً بالروح، وتارةً بالقلب، وتارةً بالعقل، وتارةً بالنفس، وإن كانت هذه الألفاظ مشتركة بينها وبين مدلولاتٍ أخرى، وإن أردت َمزيد شرح لهذا فعليك بكتاب الغزالي.
وربّما كنّى الشارعُ عنها بالأمانة، قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا). على أحد التفاسير في الأمانة. أي ظلوماً لتعرُّضه بحملها للخطَر العظيم في أمر السعادة والشقاء - عصمَنا الله ولطَف بنا -. وإسناد الحمل إلى الإنسان مَجازٌ من مجازِ المجاورة، وإلا فهو مسكينٌ لم يحمِل ولم يضَع، إنما حمل هذه الأمانة وعُرض به لحملها لِما سبق في أم الكتاب من سعادته بها وشقاوته.
ثم هذه اللَّطيفة الربّانيّة أبرزَها الله من عالَم الأمر، وذاتُها لم تستكمل بعد، وجعلها مُيسَّرةً بجبلتها للكمال. قال صلى الله عليه وسلم : (كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرَة، فأبَواهُ يُهوِّدانِه أو يُمَجِّسانهِ أو يُنصِّرانه)، وإنما أبرزت إلى هذا العالم لتكتسب فيه كمالها الذي لها بحسب ذاتها ومقتضى طبعها، ولما كانت ذاتها بأصل نشأتها من العالم الروحاني الذي ذواته عالمة بالفعل لا تفتقر إلى اكتساب، كان كمال ذاتها هي بحصول العلم والمعرفة لها بحقائق الموجودات، جتى تتصور عالمها وتعرف صفات موجده وآثاره. ولما كان تحصيل هذا الكمال بخروجها إلى هذا العالم الذي خُلق لها وامتنَّ الله به على المكلفين في غير موضعٍ من كتابه، قال تعالى : (سَخَّرَ لَكُم مَا في السَّمَاواتِ والأرض)، (وجَعَلَ لَكُم النُّجومَ)، وغير ذلك من الآيات، وذلك ليتصرَّف البدنُ في هذا العالم بالقُوى المبثوثة فيه من هذه اللّطيفة وترجع الآثار إليها من أعمالها، فتكتسب بها مزيدُ تطلُّعٍ إلى الكمال، أو باعثاً على الاكتسابَِ حتى تتجلى لها معلوماتها فتتمّ ذاتها.
وتنزّلت حينئذ الأعمال والعلوم لهذه اللطيفة منزلة الغداء للبدن الذي يَنمى قُواهُ ويَكمل هيكلهُ المحسوسُ إلى أن يصير كهلا بعد أن يكون صبيّاً. كذلك حال العلم والعملِ في هذه اللطيفة، فهي أول خُروجها إلى هذا العالم بمنزلة الصبي في أول نشوئه حتى تستكمل في هذا العالم بما يحصل فيها من آثار العلم والعمل.