آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ أرسلان -2

والتعرض إنما يكون بالتهيء وإزالة الموانع، وأصل ذلك الإيمان بالغيب عن العقل والحس، والاستسلام لذلك باطناً وظاهراً حتى لا يبقى في العبد خاطر ينازعه في شيء من الدين، ثم التأدب في معاملة الحق والخلق بالآداب الشرعية أمراً ونهياً حتى يجد الجاذب من قلبه إلى حضرة ربه من غير تكلف، ويدخل في مقام الجذبة الإلهية كما قال عليه السلام : (جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين). فعند ذلك يدخل في تصرف الحق تعالى وتنعزل نفسه عن التصرف فيه، فيسلم من الشرك الخفي والجلي ويدخل في دائرة أهل التوحيد، فإما أن يبقى في مقام الجذبة مسلوب الاختيار، أو يرد إلى مقامه الأول فيكون مسلوب الاختيار في حالة اختياره، مطلعا على مراكز اضطراره، يعلم ولا يعلم، وهو موجود وليس بموجود، وفاعل وليس بفاعل، وهكذا جميع أحواله متناقضة وفي هذا التناقض عين الوفاق، قال تعالى : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) فالعبد رمى وما رمى، كما أنه موجود وما هو موجود. فافهم إن كنت من أهل الفهم، واحترز من تلبيسات الوهم.

وأول قول الشيخ قدس الله سره العزيز في هذا الشأن : كُلُّك أيها الإنسان في ذاتك، وصفاتكَ، وأسمائكَ، وأفعالِكَ، وأحكامكَ على ما ذكرنا شرك، أي : ذو شرك مبالغة كرجل عدل خفي عنك غير ظاهر لك فإن قلتَ : هذا الخطاب يشمل الأنبياء عليهم السلام ومن عَداهم. والشرك ممتنع في حقهم ولو كان خفيّاً. قلتُ : إنما يشمل كل مستقل بالوجود دون ربه، قائم في مقام الفرق، وواقف فيه دون الجمع على ربه، والأنبياء عليهم السلام منزهون عن ذلك وإن كانوا في الفرق الثاني فإن الفرق الثاني جمع وزيادة فلا يشبه الفرق الأول إلا في تعيين الحضرات فقط، والدليل على وجود هذا الشرك الخفي من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ )، فقد أثبت لهم الشرك في حال إيمانهم بالله تعالى، فيكون شركاً خفيّاً عنهم لا يشعرون به وهذا في الأكثر، وأما في الأقل فهم يؤمنون بالله وهم موحدون. وأما السنة : فقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال : (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) وهو صريح في الشرك الخفي، ومنشأ هذا الشرك الخفي الوهم والخيال الفاسدان ، فيتوهم شيئاً موجوداً بوجودٍ مستقل غير وجود الله تعالى، ولا شيء موجود غير وجود الله تعالى، قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ) وقال تعالى :(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرَام) ومن تحقق بقوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) من غير تشبيه ولا تأويل فَهِمَ ذلك حق الفَهم، ومنشأ هذا الوهم أن الإنسان إذا ارتفع عن قلبه قناع الطفولية وابتدأ إدراكه في عالم الدنيا، يكون عقله قاصراً ومعرفته ناقصة، فعند ذلك تنبطع في مرآة خياله صور الأشياء بسبب كثرة ورودها على خاطره حتى يعتادها عقله، ويضبطها خياله، ويتحققها في وهمه، فإذا كبر وبلغ لا يكاد يصدق بوجود شيء مما وراء ذلك على غير جنس ما علمه، وهو لا يدري أن هذه الأشياء التي أدركها ، كلها آثار الحقائق العلمية، وظلال الوجودات الأزلية، بمنزل السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه. أو بمنزلة الخيالات المنطبعة في المرآة، يظنها الطفل الصغير حقائق موجودة، وإنما الحقائق الموجودة ما يقابلها، والله بصير بالعباد. فإن قلت : هذا الكلام يقتضي أن وجود الأشياء كلها أوهام وخيالات بالنسبة إلى تسميتها أشياء حقيقية مستقلة كما قال النبي عليه السلام :( أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيب : ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، يعني باطل بالنسبة إلى الله، والله هو الحق بالنسبة إلى كل شيء، ومع قطع النظر عن الله تعالى فكل شيء حق لأنه خلق بالحق قال تعالى :(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) والمذهب الباطل، كون وجود الأشياء أوهاماً وخيالات بالنسبة إلى ألأشياء في نفسها فإنه جحود لوجود الحق تعالى الذي قامت به الأشياء وهو مذهب قوم من الضالين المضلين.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية