ثم إن الشيخ رضي الله عنه حيث ذكر الداء احتاج أن يذكر الدواء لأنه طبيب الأرواح فهو مثل طبيب الأشباح، فقال ولا يبين أي لا يظهر لك أيها المشرك هذا الشرك الخفي، توحيدك الذي أنت فيه نظير غيرك من جميع العوالم وهذا التوحيد الفطري الروحاني الصحيح المعتبر، فإن جميع بني آدم عارفهم وجاهلهم كلهم موحدون كاملون لأنهم أولاد نبي وأولاد النبي كاملون مثله، ولكن علمهم بأنفسهم وبغيرهم متفاوت، فمنهم من يعرف نفسه وغيره معرفة تامة فهو النبي والكامل، ومنهم من يعرف نفسه وغيره أدنى من ذلك وهو الصديق والولي، ومنهم أدنى من ذلك وهم الصالحون والعلماء، ومنهم من لا يعرف نفسه ولا غيره أبدا وهم الجاهلون الغافلون، وإن زعموا أنهم يعرفون نفوسهم وغيرهم فإن معرفتهم معرفة وهمية لا حقيقية لأنها تابعة لمقتضى قوى حواسهم وعقولهم، لا تابعة لنفوسهم على ما هي عليه، ولغيرهم على ما هو عليه وتكليفهم من الله تعالى على حسب علمهم بأنفسهم وبغيرهم قال تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) وقال أيضا في آية أخرى : إلا وُسعها. إلا إذا خرجت أي انفصلت عنك أي عن ذاتك وصفاتك وأفعالك وأسمائك وأحكامك بحيث تحققت بالتوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي والأسمائي والأحكامي، ورجعت ذاتك إلى ظهور ذاته تعالى لك ظهورا مقيدا غير مانع من الإطلاق بالنسبة إليها، ورجعت صفاتك إلى صفاته، كذلك وأفعالك إلى أفعاله، وأسماؤك إلى أسمائه، وأحكامك إلى أحكامه، فكان هو أنت في حضرة إطلاقه واستغنائه عنك، وأنت لست هو في حضرة تقييدك وافتقارك إليه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (فَفِرُّوا إلى الله). وقوله تعالى : (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) وفي الحديث : (موتوا قبل أن تموتوا) فإن قلت الشيخ رضي الله عنه قيّد الخروج بقوله عنك، ولم يذكر الخروج عن بقية الأغيار مع أنه شرط في ذلك أيضا. قلت : الخروج عن الأغيار سابق على الخروج عن النفس بحسب ضرورة الوجدان، كما أن زمان الشباب سابق على زمان الكهولة، فإذا قلت للغلام حتى تصير كهلا، معناه حتى تصير شابا ثم تصير كهلا، وههنا الخروج عن الأغيار رتبة أولى والخروج عن النفس رتبة ثانية، فإذا ذكرت الثانية كانت الأولى مفهومة في ضمنها فلا حاجة إلى ذكرها ،وبيان هذا أن نفس الإنسان محجوبة عنه بالأغيار، فإذا خرج عن الأغيار ارتفع الحجاب عن نفسه فعرف نفسه، فإذا عرفها خرج عنها فعرف ربه، كما سيشير إليه الشيخ رضي الله عنه في آخر الرسالة بأفصح مقالة. ثم لما كان ظهور التوحيد الفطري الذي فيك لك موقوفا على خروجك عنك كما ذكرنا ،كان دوام هذا الظهور لك موقوفا على إخلاصك في هذا الخروج، ولهذا قال رضي الله عنه : (فكلما أخلصت) أي في خروجك عنك بأن خرجت عن هذا الخروج أيضا لأنه عندك إنه منك وإن كان في الحقيقة ليس لك بل أنت وما منك من الله تعالى، قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله). وإليه الإشارة بقوله تعالى : (واسجُدْ واقْتَرِبْ). فالسجود هو لحوق نفسك بأرضها التي خُلقت منها وهي العدم، والاقتراب هو السجود الثاني وهو لحوق هذا اللحوق الذي ظهر لك بالعدم أيضا، يكشف بالبناء للمفعول، أي يكشف الله تعالى بأن يظهر فيك وتجده في نفسك المعدومة، وهذا الانكشاف ليس كانكشاف الأشياء المغطاة قال العفيف التلمساني رضي الله عنه من أبيات : (جميع خطاب أهل الله معنى، بلا حرف وكشف دون كشف)، أي هو كشف لكنه ليس كما يكشف الغطاء عن الآنية، والستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن متسترا بشيء، وإنما الإدراك كان ضعيفا عن الوصول إليه فقوّاه الحق تعالى فأدرك ما كان ظاهر أنه أي الشأن أو الذي انكشف لك (هو)أي الله سبحانه وتعالى الموجود وحده فقط بالوجود الخاص به (لا أنت) أي لا وجود لك بالكلية ،بل أنت عدم محض، حينئذ وإن كنت عند ذلك على ما كنت عليه قبل ذلك من غير تغيير إلا أن بصيرتك قويت فأدركت ما لم تكن تدرك من قبل، كمن رأى شبحا من بعيد فأمعن النظر فيه فتحقق أنه إنسان، ثم أمعن النظر فيه فتحقق أنه فلان، حتى شرع في تدبير كلمات له يقولها عند اجتماعه به، ثم سار إلى نحوه وأشرف عليه فإذا هو صخر من الحجر، فإن الإنسان الذي كان في بصره قد زال، ولم يكن قبل ذلك مع أنه كان محققا له، فقد فنى الإنسان الذي هو فلان وبطلت العبارات التي دبرها له وظهر الصخر من الحجر الذي لم يكن، وهذا معنى قولهم : (حتى يفنى ما لم يكن ويبقى ما لم يزل) وقال تعالى : (ما زاغ البصر وما طغى). وهذا في نبينا صلى الله عليه وسلم حيث رأى ربه، وقد زاغ بصر غيره فلم يرى ربه حتى يذهب الزيغ والطغيان فتراه المؤمنون في دار الجنان، وإذا انجلى غبار الأغيار يظهر لك نور جميع الأنوار وهو الله الواحد القهار . قال تعالى : (فأَثْرَن بِهِ نَقْعًا). فقد أشار تعالى إلى أن العاديات وهي الروحانيات الموكلة بظهور الجسمانيات أهاجت الغبار وأثارته بينها فكان عالم الأجسام والصور بالقرآن القديم وهو الذكر الحكيم وهو الله الذي لا إله إلا هو العلي العظيم .