وكان كثير، كسفيان الثوري وغيره يقسمون العلم إلى قسمان يقولون : عالم بالله، وعالم بأمر الله. يشيرون بذلك إلى جمع بين هذين العلمين المشار إليهما : الظاهر والباطن. وهؤلاء أشراف العلماء وهم الممدوحون في قوله تعالى :(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ) الآية. وقال كثير من السلف : ( ليس العلم كثرة الرواية ولكن العلم الخشية) وقال بعضهم : (كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جدلاً) ويقولون :(عالم بالله ليس عالم بأمر الله) وهم أصحاب العلم الظاهر الذين لا نفاذ لهم في العلم الباطن، وليس لهم خشية ولا خشوع وهؤلاء مذمون عند السلف. وكان بعضهم يقول : (هذا هو العالم الفاجر). وهؤلاء الذين وقفوا مع ظاهر العلم ولم يصل العلم النافع إلى قلوبهم ولا شموا الرائحة، غلبت عليهم الغفلة والقسوة والإعراض عن الآخرة، والتنافس في الدنيا ومحبة العلو فيها والتقدم بين أهلها، وقد منعوا إحسان الظن بمن وصل العلم النافع إلى قلبه، فلا يحبونهم ولا يجالسونهم وربما ذموهم وقالوا ليسوا بعلماء وهذا من خداع الشيطان، وغرورهم يحرمهم من العلم النافع الذي مدحه الله ورسوله وسلف الأمة وأئمتها، ولهذا المعنى كان علماء الدنيا يبغضون علماء الآخرة ويسعون في أذاهم جهدهم كما سعوا في أذى سعيد بن المسيب، والحسين، ومالك ،وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وذلك لأن علماء الآخرة خلفاء الرسل، وعلماء السوء فيهم شبه وهم أعداء الرسل وقتلة الأنبياء، ومَن يأمر بالقسط من الناس حسدا وعداوة للمؤمنين، ولشدة محبتهم للدنيا لا يعظمون علما ولا دينا، وإنما يعظمون المال والجاه والتقدم عند الملوك، كما قال بعض الوزراء للحجاج بن أرطاه : (إن لك دينا وإن لك علما وفقها. فقال الحجاج : أفلا تقول : إن لك شرفا وإن لك لقدرا ، فقال الوزير : والله إنك لتصغر ما عظم الله وتعظم ما حقر الله) وكثير ممن يدّعي العلم الباطن ويتكلم فيه ويقتصر عليه يذم العلم الظاهر، الذي هو الشرائع والاحكام والحلال والحرام ويطعن في أهله، ويقولون محجوبون أصحاب قشور، وهذا يوجب القدح في الشريعة والأعمال الصالحة التي جاءت بالبحث عنها والاعتناء بها، وربّما انحل بعضهم عن التكاليف وادعى أنها للعامة وأما من وصل فلا حاجة له إليها، وأنها حجاب له، وهؤلاء كما قال الجنيد وغيرهم من العارفين وصلوا ولكن إلى سقر. وهذا من أعظم خداع الشيطان وغروره لهؤلاء، لم يزل يتلاعب بهم حتى أخرجهم عن الإسلام، ومنهم من يظن أن هذا العلم الباطن لا يتلقى من مشكاة النبوة ولا من الكتاب والسنة وإنما يتلقى من الخواطر والإلهامات والكشوفات، فأسائوا الظن بالشريعة الكاملة حيث ظنوا أنها لم تأت بهذا العلم النافع الذي يوجب صلاح القلوب وقربها من علام الغيوب، وأوجب لهم ذلك الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلية والتكلم فيه بمجرد الآراء والخواطر، فضلوا وأضلوا، فظهر بهذا أن أكمل العلماء وأفضلهم العلماء بالله العلماء بامر الله الذين جمعوا بين العلمين وتلقوهما معا من الوحيين، يعني الكتاب والسنة، وعرضوا كلام الناس في العلمين معا على ما جاء في الكتاب والسنة، فما وافق قبلوه، وما خالف ردوه. وهؤلاء خلاصة الخلق، وهم أفضل الناس بعد الرسل، وهم خلفاء الرسل حقا، وهؤلاء كثير في الصحابة، كالخلفاء الأربعة، ومعاذ، وأبي الدرداء، وبلال، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وغيرهم . وكذلك فيمن بعدهم كالحسن، وسعيد بن المسيب ،وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ويحيى بن أبي كثير، وفيمن بعدهم كالثوري، والاوزاعي، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين وقد سماهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم العلماء الربانيين، يشير إلى أنهم الربانيون الممدوحون في غير موضوع من كتاب الله عز وجل فقال الناس ثلاثة : (عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع). ثم ذكر كلاما طويلا وصف علماء السوء والعلماء الربانيين وقد شرحناه في غير موضع.