آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مسألة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود

قلت: مسألة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود قد كثر فيها الكلام من العالم والجاهل، فكثر الكلام، وتخبطت الآراء، وتنازعت، وبمجرد إطلاق لفظ وحدة الوجود يتوهم الجاهل القول بالحلول والاتحاد، ونسبها ظلماً وعدواناً الكثير من الجهلة قديماً إلى الشيخ الأكبر وأكابر الأولياء : كالشيخ عبد الكريم الجيلي، والشيخ القوني، والشيخ ابن سبعين، والشيخ ابن الفارض، وغيرهم رضي الله عنهم جميعهم، وتبعهم على ذلك أتباعهم من المتأخرين، وإن شئت قلت : أعوانهم في تلك الجهالة، وكان مدخلهم إلى هذه النسبة وتلك الاعتراضات وتجرؤهم على ما يجهلونه من علوم الأولياء نظرهم إلى علوم القوم باعتبار أنه علومٌ فلسفيةٌ، مصدرها الفكر والعقل، وكأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة : 282]، ولا قوله تعالى : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}[الكهف : 65]، ولا قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف : 108]، ولا قوله تعالى :{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران : 79ِ]، ولا قوله : {جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة : 24]، ولا ما روي عن أبي جُحَيْفَةَ قال سأَلْتُ علِيًّا : هل عندَكم مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيءٌ سوى القُرْآنِ ؟ فقال : لا والَّذي فلَق الحبَّةَ وبرَأ النَّسَمةَ إلَّا أنْ يُعطيَ اللهُ عزَّ وجلَّ فَهْمًا في كتابِه أو ما في الصَّحيفةِ، قُلْتُ : وما في الصَّحيفةِ ؟ قال : العَقْلُ وفَكاكُ الأسيرِ وألَّا يُقتَلَ مُسلِمٌ بكافرٍ. ولا ما رُوي في البخاري : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : " حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ " . ولم يبلغهم مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مما يقرر اختصاص الحق سبحانه لمن شاء من عباده بما شاء من عطاياه، سواء كان المُعطَى محسوساً أم معنويًّا كالعلم بالله والفهم في كتابه، فراحوا ينكرون كل ما يجهلونه، وكأنهم أحاطوا بما عند الله، أو تحكموا على الله ألا يعطي أحداً من خلقه إلا بعد أن يستأذنهم، ولا يُفهِمُ أحداً في كتابه إلا بما فَهِموه هم بفهمهم السقيم لا غير، فسبُّوا ولعنُوا أولياء الله، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وجعلوا يستشهدون بأقوال أهل الكفر المستشرقين الذين ما أرادوا بالإسلام والمسلمين خيراً قطُّ على أئمة الهدى المسلمينن فينسبون العلم اللدني الوارد ذكره في كتاب الله وفي سنة رسول الله تارةً إلى المسيحية، وتارةً إلى الفلسفة اليونانية، وأخرى إلى الاستنباطات العقلية تبعاً لهؤلاء المستشرقين الذين أدركوا حقيقة علوم التصوف،وما لها من العظمة بحيث يعجز غير المسلمين عن الاتيان بشيء منها، وكيف لا وهي من السيد الاعظم صلى الله عليه وسلم متلقاةٌ، وأن التصوف الإسلامي منذ عهد الصحابة إلى الآن السبب الأقوى والفعّال في دخول جموع الناس في دين الله أفواجاً، وهذا ما يشهد به التاريخ، فراحوا ينسبونها إلى أنفسهم أو إلى عقلٍ وفكرٍ كما مرَّ محاولين بذلك التقليل من شأن العلم في قلوب المسلمين، ولكن هيهات هيهات : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}ببعض النظريات التي يكذبها التاريخ، وتأباها عظمة الدين الخاتم : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

فترى دافع المتقدمين إلى الإنكار : الحقد، والحسد، وحب السمعة، والمتأخرين : الجهل الذي ملأ قلوبهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}فتراهم ينقلون أقوال إخوانهم الذين يمدونهم في الغيِّ دون أدنى معرفةٍ بالدليل الذي استند إليه العلماء بالله، ولا يستبرئ لدينه فيبحث عنه، بل أخدوا يكررون ويرددون الأقوال المنكرة في حقّ سادات الأمة المحمدية ورثة الأنبياء تلك الأقوال العارية بالطبع عن دليل القوم، وكان الأحق بهم قبل أن يؤذنهم الله بمحاربته بإيذائهم لأوليائه أن يأخدوا العلم من أهله؛ وخصوصاً أن علوم القوم موضوعها العقائد المتعلقة بمعرفة الله ورسوله صلى الله تعليه وسلم، وتلك أمورٌ محلها القلب، فلا اطّلاع عليها إلا لصاحبها.

ولا تظن يا أخي أن علوم القوم خاليةٌ عن تأييد الشرع، أو عاريةٌ عن الدليل، كما صوَّرها هؤلاء الجهلة، بل الحق الذي لا مرية فيه أنه لا توجد عقيدةٌ قررها القوم في كتبهم إلا وهي محاطةٌ بالدليل الشرعي، والمتتبع لأقوالهم نفعنا الله بهم يجدها مصحوبةً بالدليل.

وإليك نصوص ما ذكره ساداتنا العلماء بالله في نفيهم للحلول والاتحاد المتوهَّم في حقهم الشريف :

قال الشيخ ابن عربي في (الفتوحات) في باب الأسرار : ( من قال بالحلول فهو معلولٌ، فإِن القول بالحلول مرضٌ لا يزول، ومن فصَلَ بينك وبينه فقد أثبت عينك وعينه، ألا ترى قوله : "كنتُ سمعَه الذي يسمع به"، أثبتك بإعادة الضمير لا إليك ليدلك عليك، وما قال بالاتحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول فإنه أثبتك حالاً ومحلاًّ، فمَن فصَلَ نفسه عن الحق فنِعمَ ما فعل).
وقال الإمام الجنيد رضي الله عنه : (التوحيد إفراد القِدم عن الحدوث).
وقال الأمير عبد القادر في (موافقاته) في حديث مسلم : (إن الحق تعالى يتجلى لأهل المحشر ...إلخ) : وفرقةٌ تقرُّه في الدنيا والآخرة : أي التحول المذكور في الحديث من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج ولا تولُّد، مع اعتقاد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وهم العارفون بالله تعالى أهل التجلي والشهود في الدنيا.
وقال سيدي عليُّ بن وفا : إنما كانت القلوب السليمة تحنُّ إلى التنزيه أكثر من التشبيه لأن التنزيه هو الأصل، والتشبيه إنما هو تنزُّل للعقول، ومن شأن الذات الإطلاق لذاتها، وتساوي النسب لصفاتها؛ واعلم ذلك ونزِّه ربَّك عن صفات خلقه.
وانظر قول الشيخ الشعراني : وعندي أن هؤلاء القائلين بالاتحاد كلهم لم يصحُّ لهم اتحادٌ قطٌّ إلا بالوهم، وانظر كلامهم تجده من أوله إلى آخره لا يبرح من الثنوية، فإنه لا بدّ من مُخاطِب ومُخاطَب.

فإن قلت : فكيف العمل في تلك الأقوال الكثيرة المشحونة باستخدام تلك الألفاظ الموهمة ؟!

أقول لك : بعدما تقدم ذكره من القول إن لم تستطع قبول تلك الأقوال ولم تفهم المعنى الموافق للشرع الذي هو يقيناً مراد القائل فتأولها بما يوافق الشرع، فإن الكتب الفقهية والشرعية مليئة بالتعارض والترجيحات وتأويل الأقوال والأدلّة المتعارضة، فقس على ذلك والله هو الموفِّق.

أحمد فريد المزيدي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية