{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } * { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } * { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } * { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } * { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } * {لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } * { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } * { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } * { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } * { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } * { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } *{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }
يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّ الإِنسانَ خُلق هلوعاً } ، قال ابن عباس: الهلوع: الحريص على ما لا يجده، وعن الضحاك: هو الذي لا يشبع. وأصل الهلع: أشد الحرص وأسوأ الجزع، قال صلى الله عليه وسلم: " شر ما أعطي العبدُ شحٌّ هالع، وجُبن خالعٌ " وأحسن تفاسيره: ما فسّره به الحق تعالى بقوله: { إِذا مسّه الشرُّ جَزوعاً } مبالغ في الجزع، { وإِذا مسّه الخيرُ } أي: السعة والعافية { مَنوعاً } مبالغاً في المنع والإمساك. {إِلاَّ المُصَلِّين الذين هم على صلاتهم دائمون } لا يشغلهم عنها شاغل لاستغراقهم في طاعة الخالق، واتصافهم بالإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآجل على العاجل، على خلاف القبائح المذكورة، التي طبع عليه البشر. { والذين هم على صلاتهم يُحافظون } يُراعون شرائطها، ويُكملون فرائضها وسننها ومستحباتها، وكرر ذكرها لبيان أنها أهمّ، أو: لأن إحداهما للفرائض، والأخرى للنوافل. وقيل: الدوام عليها: الاستكثار مِن تكررها، والمحافظة عليها: ألاّ تضيع عن أوقاتها، أو: الدوام عليها: أداؤها في أوقاتها، والمحافظة عليها: إتقانها وحفظ القلب في حضورها، أو: المراد بالأولى: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، وبالثانية: صلاة الجوارح. وتكرير الموصولات تنزيلٌ لاختلاف الصفات منزلةَ اختلاف الذوات، إيذاناً بأن كل واحد من الصفات المذكورة نعت جليل على حِياله له شأن خطير، حقيق بان يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر.
الإشارة
يقول سيدي أحمد بن عجيبة رضي الله عنه : طبعُ الإنسان من حيث هو: الجزع والهَلع، لخراب الباطن من النور، إلاّ أهل التوجه، وهم مَن مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة أهل الغنى بالله، وهم الذين ذّكَرَ اللهُ بقوله: { على صلاتهم دائمون } أي: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، باستغراق أفكارهم في أسرار التوحيد، وهو مقام الفناء في الذات، فهم الذين تطهَّروا من الهلع لِما باشر قلوبَهم من صفاء اليقين، فمَن لم يبلغ هذا لا ينفك طبعه عن الهلع والطمع، ولو بلغ ما بلغ. قيل لبعضهم: هل للقلوب صلاة؟ قال: نعم إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. هـ. أي: إذا واجهته أنوارُ المواجهة خضع لها على الدوام، { والذين في أموالهم } أي: فيما منحهم اللهُ من العلوم والأسرار، حق معلوم للسائل، وهو طالب الوصول، والمحروم، وهو طالب التبرُّك، لكثرة علائقه، أو: لضعف همته، أو: للسائل، وهو مَن دخل تحت تصرفهم، والمحروم: مَن لم يدخل في تربيتهم، فله حق، بإرشاده إلى ما يصلحه مما يقدر عليه وينفعه. والذين يُصدِّقون بيوم الدين، فيجعلونه نُصب أعينهم، فيجتهدون في الاستعداد له. { والذين هم من عذاب ربهم } وهو عذاب القطيعة { مُشفقون إنّ عذاب ربهم غير مأمون } ولو بلغ العبد من التمكين ما بلغ لأنَّ الله مُقَلِّب القلوب ولا يأمن مكرَ الله إلاَّ القوم الخاسرون. { والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } فإنهم ينزلون إلى القيام بحقهن بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فمَن ابتغى وراء ذلك بأن قصد شهوة المتعة، فأولئك هم العادون، تجب عليهم التوبة، والذين هم لأماناتهم، وهي أنفاس عمرهم، وساعات أوقاتهم، أو: الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، { وعهدهم } الذي أخذ عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بالربوبية، والقيام بوظائف العبودية، { راعون } ، فهم يراعون أنفاسهم وساعاتِهم، ويُحافظون عليها من التضييع، ويُراعون عهودَهم السابقة واللاحقة، أي مع الله، ومع عباده، فيُوفون بها ما استطاعوا، والمراد نية الوفاء، لا الوفاء بالفعل، فمَن عقد عهداً ونيته الوفاء، ثم منعته الأقدار، فهو وافٍ به.
تفسير ابن عجيبة