مِنْ علامات العارفِ باللهِ أنه مستأنس بربه، مُسْتَوْحش ممن يقطعه عنه.
قال إبراهيم بن أدهم : أعلى الدَّرجات أنْ تنقطعَ إلى ربِّك ، وتستأنِسَ إليه بقلبِك ، وعقلك ، وجميع جوارحك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك ، ولا تخاف إلاَّ ذنبكَ وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً ، فإذا كنت كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت ، أو في بحرٍ ، أو في سَهْلٍ ، أو في جبلٍ ، وكان شوقُك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظمآن إلى الماء البارد ، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعام الطيب ، ويكونُ ذكر الله عندكَ أحلى مِنَ العسل ، وأحلى من المَاء العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف .
قال أبو سليمان الداراني : (لوْ لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكْتفوا بها : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) (2).
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أي شيء أراد أهل المعرفة؟!، واللهِ ما أرادوا إلا ما سأل موسى عليه السلام) (3)؛ يريد قوله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (4).
وكان سعيد بن علقمة من نُسَّاكِ النخع وكانت أمه طائية؛ قالت: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامّة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: (اللهم همّك عطّل عليَّ الهموم وحال بيني وبين السُّهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب)، قالت: (ولربما ترنّم في السحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جُمع في ترنّمه تلك الساعة) (5).
وقال عبد العزيز بن محمد: رأيت فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: مَنْ يحضر مَنْ يحضر؟!؛ فأتيته، فقال لي: ما تريد ؟!، فقلت: سمعتك تقول: مَنْ يحضر مَنْ يحضر؟!، فأتيتك أسألك عن معنى كلامك، فقال لي: أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأولياء، فأدْرِكْ فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه، قال: فأتيته فإذا الناس حوْله وهو يقول:
ما نالَ عَبْدٌ مِنَ الرحمنِ منْزِلَةً أعلَى مِنَ الشوقِ إنَّ الشوقَ محمودُ!
قال: ثم سَلّم ونزل؛ فقلت لرجل إلى جنبي: مَنْ هذا ؟!؛ فقال: أمَا تعرفه ؟!؛ فقلت: لا؛ فقال: هذا داود الطائي؛ فعجبت في منامي منه؛ فقال: أتعجب مما رأيت!، واللهِ لَلَّذي لداود عند اللهِ أعظمُ من هذا وأكثر! (6).
ورأى إبراهيم بن أدهم في المنام كأنّ جبريل - عليه السلام - قد نزل إلى الأرض، فقال له إبراهيم: لِمَ نزلت إلى الأرض، قال: لأكتب المحبين. قال: مثل مَن؟! قال: مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السخّتياني، وعَدَّ جماعات. قال إبراهيم: أنا منهم؟! قال: لا؛ فقلت: فإذا كتبتهم فاكتب تحتهم: محبٌ للمحبين. قال: فنزل الوحي: أكتبه أولهم! (7).
وعن أبي سليمان الداراني - رحمه الله - قال: حدثني سعيد الأفريقي، قال: (كنت ببيت المقدس مع أصحاب لي في المسجد، فإذا أنا بجارية عليها درع شعر وخمار من صوف، فإذا هي تقول: إلهي وسيدي ما أضْيق الطريق على مَن لَمْ تكن دليله وأوْحش خلْوة من لم تكن أنيسه!. فقلت: يا جارية ما قطع الخلق عن الله عز وجل ؟!، فقالت: حبُّ الدنيا إلاّ أن للهِ عز وجل عباداً أسقاهم من حُبِّه شربةً فَوَلَهَتْ قلوبهم فلم يُحبوا مع الله غيره) (8).
** ** **
1) سورة القيامة، الآية: 22، 23.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 294.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 264.
(4) سورة الأعراف، الآية: 143.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل برقم (174)، وأبو بكر القرشي في الهم والحزن برقم (147).(6) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 7/ 360.
(7) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، 12/ 34.
(8) صفة الصفوة لابن الجوزي، 4/ 252.