قال رضي الله عنه :
يَجِبُ للهِ الْوُجُودُ وَالْقِدَمْ
كَذَا الْبَقَاءُ وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ عَمّْ.
وَخُلْفُهُ لِخَلْقِهِ بِلاَ مِثَالْ
وَوَحْدَةُ الذَّاتِ وَوَصْفٍ وَالْفِعَالْ.
وَقُدْرَةٌ إِرَادَةٌ عِلْمٌ حَيَاةْ
سَمْعٌ كَلاَمٌ بَصَرٌ ذِي وَاجِبَاتْ.
فها هو قد أخد يُبَيِّنُ ما لله، فانظر أيها العبد ما لنفسك، فإن وصفتَ نفسكَ بوصفٍ من هذه الأوصاف فإنك منازعٌ لربك، فالله سبحانه وتعالى يجب في حقه الوجود والوجود هو عين الموجود، والمراد به الوجود المطلق الذي لا يَتحيَّز ولا يتعدَّد ولا يتميَّز، ولا يُمكن أن يكون مع هذا الوجود وجود لعدم تحيّزه وشدّة ظهوره وعظمة نوره.
ثمّ اعلم أنّ هذا الوجود لا يقبل الانتفاء في بصائر العارفين كما أن الحس لا يقبل الانتفاء في أبصار المحجوبين، إذ ربما ظهور المعنى للمعنى أقوى من ظهور الحس للحس، ولهذا يطرأ ظهور الوجود المطلق على الصوفي فيغرق في التعظيم، وذلك أنه إذا جال في ميدان القدم لم يجد له غاية، فيلتفت إلى البقاء فلم يجد له حدًّا ولا نهاية، فيغوص في غوامض البطون فلم يجد هنالك فلجة، فيصعد مع مظاهر الظهور فلم يجد لديه فرجة، فيقول يا حيرتي أين الملجأ ؟ فتناديه حقائق الأسماء والصفات هل طلبت تحيز الذات أم أردت أن تصفه بالجهات ؟ فأنت في مقام يقتضي بطون الأسماء والصفات فما بالك بالمكوَّنات، فحينئذٍ يسلم نفسه لذلك الوجود ويتحقق بأن ليس مع ذلك الوجود لا عدم ولا وجود.
وحاصل الأمر أن الوجود هو نفس الذات، والقدم صفة نافية وجود الأولية، كما أن البقاء ينفي عن الله وجود الآخرية بحيث يكون لذلك الوجود اختتام، فالله تعالى قديم ولا بداية لقدمه وباقٍ ولا نهاية لبقائه، ثم إن لذلك الوجود المطلق عنىً تامًّا مطلقاً عاماًّ بمعنى أن الذات غنية عن سائر الممكنات بل حتى عن الصفات فهي قائمة بنفسها لا تفتقر لغيرها وكذلك غنية عن المحل فالحق سبحانه وتعالى لا يفتقر لمحل يظهر فيه أو يستقر عليه، كيف يفتقر إلى المحل والمحل قبل وجوده مفتقر إليه.
قال لسان هذه الحضرة من قصيدة لي غفر الله ذنوبي :
أنا مطلق الوجود غير محيز مكاني أنّي منّي والعلم فيّ جهلا
ومما يجب لله أيضاً مخالفته للحوادث، وهذه الصفة ليست من معتمد العارفين لأن المماثلة لا تحدث في افكارهم بحال لخروجهم من عالم الخيال والكيف والمثال، فانهدمت عندهم السدود واندرست لديهم الجهات والحدود وانطوى لهم الشاهد في وجود المشهود، فهل يرون سوى الملك المعبود، كلا والله لا موجود معه حتى يماثله نعم هذه الصفة نافعة للمحجوبين بل هي سفينة نجاتهم لكونها نافية عن قلوبهم وجود التكييف والتشبيه والجهات والتحيُّز والمكان والتمييز، فالحق تعالى منزَّهٌ عن سائر صفات المُحدثات، وقد يكشف الغطاء عن صفة التنزيه للعارفين فتقع لهم حيرة حيث يجدون الحق منزَّهاً عن التنزيه، فيريدون أن يخبروا بما هنالك من الأسرار العجيبة فيمنعهم عن النطق لكنَة الحروف في ألسنتهم، فربما تبرز الكلمة تشابه التشبيه فتصير فتنة في استماع أهل الحجاب مع أنها مبالغة في التنزيه، ولا ينجو من ربقة التكييف والتشبيه إلاّ من صاحبَ العارفين وسلك مسلك الموحدين، وكيف ينجو من التقييد والحق عنده بعيد ام كيف ينجو من الحدود والكون في نظره موجود، فإن لم تفنَ يا أخي عن الوجود في شهود المعبود وتلتمس الرفيق قبل الطريق، فقد هَويتض في هاوية لا نجاح لك بعدها إلا إذا تداركك لطف الله، فالله يداركنا بلطفه ويحفظنا من التكييف والتشبيه، ولا ينفعك يا أخي التنزيه باللسان والتشبيه بالجنان، فإن كنتَ محجوباً عن أمره فإنك تشبهه في التنزيه لعدم معرفتك بحقه، وإذا كنتَ عارفاً به فإنك تنزهه في التشبيه لاضمحلال وجودك في وجوده.
وحاصل الأمر أن تشبيه القوم أحسن من تنزيه العوام، وعليه فعلى المحجوب أن ينزه الله عما لا يليق به ولا يتكلم فيما لا يدريه، ويجد في طلب من ينهض به من وجود نفسه إلى شهود ربه، حتى يجد التشبيه والتكييف منفيين من قبل أن ينفيهما، وفانيين من قبل أن يفنيهما.
ومما يجب لله أيضاً الوحدانية في الذات والصفات والأفعال إذ هو ليس بمتركب ولا متععدد، ولهذا قال : الوحدانية في الذات والصفات خشية منه على السامع أن يتوهّم حيث يسمع بوجود الصفات وبقدمها فيعتقد تعدد القدماء تعالى الله عن ذلك، ووحدانية الحق لا زائد عليها لأنها لا تقبل الزيادة كما أنها لا تقبل النقصان، كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، لأن الصفات لا تقوم بنفسها حتى تستقل بوجودها أو تنفصل عن موصوفها الذي هو الذات، هذا معنى الوحدانية في الذات والصفات وأما الوحدانية في الفعل فهو أن لا يمكن أن يكون فعل مع فعل الله سبحانه وتعالى.
وحاصل الأمر أن القوم انقسموا على ثلاثة أقسام :
القسم الأول منهم يرى أن لا فاعل إلا الله ويتحقق بمعنى الوحدانية في الأفعال من طريق الكشف لا من طريق الاعتقاد ويرى أن الفاعل واحد وإن تعدّدت الأفعال وهؤلاء صبيان الطريق بالنسبة للتحقيق.
والقسم الثاني يتحقق بحقيقة الوحدانية في الصفات وعندما يحصل له هذا الاطلاع على الوحدانية في الصفات يجد لا سميعاً ولا بصيراً ولا حيّاً ولا متكلمًا ولا قادراً ولا مريداً ولا عالماً إلا الله، ويراعي الصفات في سائر المكونات من طريق العيان لا من طريق البرهان، لأننا إذ تحققنا بأن لا فاعل إلا الله فلا يمكننا أن نثبت هاته الصفات السنية لما سواه.
والقسم الثالث هم الذين تحققوا بحقائق الوحدانية في الذات فحجبوا عما سوى ذلك من المكونات، وذلك لما اكتشفوا عن عظمة الذات لم يجدوا هنالك فسحة تظهر فيها المكوَّنات، قالو لا موجود في الحقيقة إلا الله حيث فقدوا ما سواه، فهؤلاء هم الذاتيون والعارفون الموحدون، وما سواهم محجوبون وغافلون لم يذوقوا طعم التوحيد ولا استنشقوا رائحة التفريد، وإنما سمعوا بالتوحيد وحيث طرق أسماعهم ظنوا أنهم موحدون، كلا وإنما هم مبعدون عن الحق ومنقطعون فالتوحيد لا تحمله الأوراق ولا تتَلفَّظُ به الأشداق ولا تسعه الأرضون ولا الآفاق ولا تحمله السموات ولا الطباق ما عدا أسرار العارفين وقلوب العشاق.
قال عليه السلام فيما يرويه عن ربه : (لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن) فيا له من قلب ويا له من ربّ ويا له من مسكن ويا له من ساكن، اللّهم اسكن قلوبنا ولا تؤاخدنا بالساكن.