الباب الثاني
في الأشياخ الذين لقي والذين خدَم وأخذ عنهم
إنه رضي الله عنه لقى جماعةً من أرباب الطريق، وتبرّك بهم وأخذ عنهم.
قال صاحب كتاب التشوُّف: كان الشيخ أبو يعزى يقول: خدمت نحو من أربعين وليًّا لله عزّ وجل منهم: من ساح في الأرض، ومنهم: من قام بين الناس إلى أن مات.
وأكثر خدمته لشيخه الأمام سيدي أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي الأزموري الجامع بين العلم والعمل، وكان يخدمه حتى توغصّت عليه زوجه، وقالت: لابد من أمَة تخدمني، فدخل عليه يومًا فرأى على وجهه التغيُّر, والقتر فسأله؟
فقال: إن الزوجة قالت: لا بد لي من أمة تخدمني، وليس لي ما أشتري به الأمَة.
فقال له: أنا أخدمها على أني لن أراها ولن تراني، قال لها ذلك, قالت: إذا قامت لي بحق الخدمة لا حاجة لي برؤيتها، فكان يطحن, ويعجن بالليل، ويسقي الماء, ويتفرَّغ بالنهار للعبادة.
وذكر صاحب التشوُّف, قال: حدثني أبو عمران موسى بن وركون الهسكوري قال: حدثني أبو علي مالك بن تماجورت برباط شاكر. قال: تزوج صاحب من أصحاب أبي يعزى، فطلب منه مملوكة لهم تكن عنده، فقال له أبو يعزى: أنا أنوب مناب المملوكة، وكان أسود لا شعر بوجهه فتزيّء بزي المملوكة، فقام يخدمه وزوجه عامًا كاملاً يطحن, ويعجن ويسقي الماء في الليل، ويتفرَّغ في النهار للعبادة في المسجد، فلما كمُل العام.
قالت الزوجة لزوجها: ما رأيت هذه المملوكة تعمل بالليل جميع أعمال النهار، ولا تعمل بالنهار؟ فأعرض عنها, وتغافل عن جوابها، فما زالت تسأله إلى أن قال لها: ما خدمك إلا أبو ونلكوط وليس مملوكة، فعلمت أنه أبي يعزى.
فقالت حينئذٍ: والله لا خدمني أبدًا بعد هذا، ولأخدمنَّ نفسي، فجعلت تخدم نفسها من حينئذٍ.
وحدَّثني غيرُ واحدٍ: إن ذلك الصاحب الذي خدمه هو الشيخ أبو شعيب أيوب بن سعيد السارية، وأنه لما أخبر زوجه أن الذي يخدمها هو آل النور, دخل المسجد على أبي يعزى وهو يتبسم، فقال له أبو يعزى: مالك تبتسم؟ فأخبره بما كان بينه وبين زوجه، فقال له: لِما أخبرتها؟ هلا تركتني أخدمكما كما كنت.
وحُكي: إن سبب ذلك أنها تكلّمت مع النساء, وقالت لهن: لي مملوكة لا نراها بالنهار أصلاً, وكل ما نحتاجه تصنعه لي بالليل, وزوجي إذا مكث بالليل ساعة عندي يخرج ولا أدري أين يغيب. قالوا لها: لعله يذهب للأمة فيكمل ليله عندها, إذ هي إذن جاريته، فلما أقام أبو شعيب على عادته للقيام, إذ كان يقوم الليل لا ينام منه إلا القليل فصبرت ساعة، وقالت: أذهب إلى موضع الأمة, فإن صدق النسوة أجده عندها, فلما أطلَّت عليه؛ وإذا بالرحى تدور وحدها, وأبو يعزى واقفٌ في الصلاة، ولم يشعر فرجعت مذعورة خائفة، فلما أتى الشيخ أبو شعيب قالت له: أخبرك بعجب أنه وقع مني ذهبت لأنظر إلى المملوكة, وإذا بالرحى تطحن وحدها, والمملوكة واقفة في الصلاة، قال لها حينئذ أنها ليست بمملوكة؛ لأنه آل النور أبو ونلكوط هو الذى يخدمك، قالت: والله لا خدمني بعد الذي رأيت أحدًا ولآخد منكما مدة حياتي أو كما قالت.
وقد لقي أيضًا غير أبي شعيب؛ كأبي عبد الله بن أمغار, وأبي موسى عيسى أيغور وغيرهم كثير كما تقدَّم، وسيدي أبو شعيب شيخه سيدي أبو النور الدكالي, وسيدي أبو النور شيخه سيدي عبد الجليل بن ويحلان.
ويقال: ويحلام بالميم، وأنه لَقَبٌ له والله أعلم, وسيدي عبد الجليل شيخه أبو الفضل الجوهري المصري, ارتحل من المغرب إلى أن أخذ الطريقة على حقيقتها من المشرق, وأبو الفضل شيخه والده بشر, وبشر شيخه أبو الحسن النوري, وأبو الحسن النوري شيخه السري السقطي, والسري شيخه أبو محفوظ معروف الكرخي, وأبو محفوظ شيخه الإمام المشهور داود بن نصر الطائي.
وكان من أصحاب الإمام أبي حنيفة, وداود شيخه أبو محمد حبيب العجمي, وحبيب شيخه الحسن بن أبي الحسن البصري.
وأبو الحسن أدرك الكثير من الصحابة: كأنس بن مالك وغيره، وكان معظِّمًا له، ويقول: اسألوا مولانا الحسن.
وقالوا: أخذ أيضًا عن مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وهؤلاء كلهم أخذوا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأنس بن مالك قد خدم النبى صلى الله عليه وسلم عشر سنين, ولم يفارقه حتى مات، وكذا سيدنا علي كرم الله وجهه.
وأما الحسن بن علي: فكان الحسن البصري من نظرائه في العلم، وإنما فُضِّل عليه بالنسب الذى لا مطمع لأحد فيه إلا من كان له نسب كنسبه.
فأما أبو شعيب فهو: أيوب بن سعد الأنصاري الصنهاجي من بلد أزمور.
قال ابن الزيات: ويقال فيه أنه من الأبدال، قدم مراكش عام إحدى وأربعين وخمسمائة.
أشخصه عبد المؤمن بن علي، فلما رآه شاحب اللون أشفق عليه، ثم أراد أن يناظره, فهابه لما رأى منه بعض المكاشفة، فصرف مناظرته إلى بعض المتجرءين من أصحاب الإمام المهدي، فسأله عن حقائق التوحيد المصطلح عليها عندهم، فأجابه بجواب السلف بالآيات القرآنية.
ورُوي: إنه لما سأله عن التوحيد، قال له أبو شعيب: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة:255] فقال له واسنار: ما هذا هو التوحيد؟.
قال له أبو شعيب: لا أماته الله عليه، فتطيَّر منها عبد المؤمن.
وعلم أنه لا بد أن تصيبه دعوته، ثم سأله بعد ساعة فقال: ما التوحيد أيها الشيخ ؟
فقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18].
فكرر عليه الشيخ الدعاء والعياذ بالله، ثم بعد ساعة قال: ما التوحيد أيها الشيخ؟
فقال: قال الله عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1 :4], فكرر عليه الجواب كالأول، فكرر عليه الشيخ الدعاء.
وإذا بهدّة عظيمة وقعت في قصر عبد المؤمن، فتغير من ذلك، وعلم أنه ما أصيب إلا من جانب الشيخ فعظَّمه، وأمر بزيارته, وقضاء مآربه، فقال: لا حاجة لي إلا أن تشفعني في نساء علي بن يوسف, ونساء أولاده, وتسرحهم حيث شاءوا فامتثل.
ثم انتقم الله من واسنار في قصة غريبة أضربنا عنها اختصارًا، ونُشر والعياذ بالله بالمنشار وهو يقول: يا ويلاه حتى مات على تلك المقالة، وصرف الشيخ لبلاده أزمور مكرمًا عزيزًا بالله تعالي.