التصوف المغربي تاريخ عريق ونور امتد للمشرق ومشكاة تنير طريق المسلم بعيداً عن تيارات ظلامية متطرفة، إذ عرف التصوف المغربي بكونه تصوف أخلاق لا إشراق فقط ...
فالتصوف الذي يعتمد على الأخلاق يتجاوز الإشراق الذي يقتصر على العلم والبحث الديني وإنما يذهب إلى البعد الواقعي والسلوكي بحيث ينفتح على الآخر ويتقبل الآخر ويحرم دمه حرمة الدم في الإسلام ...
فبالنسبة لعلماء المغرب، ليس في الصوفية عدو، فالصوفي من صفا قلبه لله وصفت لله معاملته فصفت له كرامته، وأحبّ وتجانس مع كل الناس...
فالعنوان العريض الذي اتخده منذ قرون التراث الصوفي المغربي هو "لا تكره يهودياً ولا نصرانيًّا، ولكن اكره نفسك التي بين جنبَيْك" أي لا تكره أي إنسان لإنسانيته، واقرأ فيه حكمة المكوّن في أكوانه، فالإنسان من حيث هو إنسان كونٌ من أكوان الله تعالى، توجب تقبُّلَه على حاله وشكله في وجه الذي خلقه وأراده على حالته التي هو عليها، فلا يقع في ملكه سبحانه وتعالى ما لا يريد، لذلك لا تكره صنع الله في خلقه واكره نفسك التي بين جنبيك، فالنفس هي الأمارة بالسوء وهي التي تخلق لك من المشاكل ما لا يخلقه لك اليهودي ولا النصراني ولا أي عرق آخر...
طريق التصوف بالمغرب لا يؤمن بالغلو في الدين ولا بالتطرف فهو يتبع سيرة النبي الكريم الذي قال : (المسلم لين هين كالسنبلة) وقال : (المؤمن كمثل السنبلة تخر مرة وتستقيم مرة) وينهج طريق رحمته التي بعث عليها، إذ قال سبحانه ووتعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وفي سورة الأعراف : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
لذلك يلجأ العديد من الاجانب الذين يريدون معرفة الإسلام إلى الزوايا المغربية، فرغم الهجمة على الإسلام وما ألصق به مؤخرا من تهم بسبب الجماعات المتطرفة والإرهابية فإنه وعكس ما كان متوقعاً، عرفت السنين الأخيرتين أكبر دخول للإسلام في المملكة المغربية وغالبية المسلمين الجدد يختارون فترة رمضان وفترة المواسم الدينية، لإعلان إسلامهم مباشرة في الجوامع والمساجد ولعل موسم المولى إدريس الأزهر الذي يستمر متقطعا من شهر غشت إلى شهر شتنبر وموسم الزاوية القادرية البودشيشية التي بدأت منذ القرن الخامس الهجري - وقد سُمي سيدي علي بودشيش لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة بالدشيشة - كفيلان بأن يعرفاننا على الكم الهائل من الأجانب الذين دخلوا الإسلام ويزورون هذه المواسم الدينية سنويا إضافة إلى بقية الزوايا التي تعرف إقبالا لهم أيضا، مثل الزاوية التيجانية والزاوية العلوية وغيرهما ...
أخلاق إنسانية نبيلة وتسامح لا محدود ورحمة للعالمين اهتداء بنهج النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة آل البيت الكرام ومن اتبع نهجهم من صحب وعلماء وأولياء ... فحينما تتحول هوية السلوك إلى فكر، فالفكر يصبح نتاجا للسلوك... ولا يكون السلوك آنذاك إلا تجسيداً لروح الإسلام السمحة الراقية... روح تسمو بصاحبها فتنظف قلبه من الحقد والضغون ... فلا يتعصب لعشيرة ولا يتعصب لمذهب ولا ينظر للآخر نظرة ازدراء لأن أكرمنا عند الله أتقانا...
متصوفة المغرب كان لهم دور كبير في نشر الصوفية في المشرق وما زالت القدس وفلسطين ترتبط بالمغرب تاريخيا من خلال الطريقة الشاذلية وقد انتشرت الزوايا الصوفية المغربية في المشرق كله، مثل الزاوية العلوية والزاوية التيجانية والزاوية الدرقاوية والزاوية الكتانية والزاوية البودشيشية التي لقب مؤسسها بسيد العارفين والزاوية الجازولية وغيرها، وقد شاءت الأقدار أن يتوفى عدد من العلماء المتصوفة في أراضي المشرق، ففي مصر تجد الولي الصالح العالم سيدي أحمد البدوي، ومقامه في مدينة طنطا وقد ولد في مدينة فاس وحفظ القرىن الكريم وأخد عن المذهب المالكي واستقر في مصر بعد أن رافق والده للحج سنة 637 هجرية إلى أن توفى بها، مقامه مزار مشهور بطنطا وقد أسس المعهد الأحمري باسمه وهو من أعرق المعابد الدينية للأزهر الشريف ...
سيدي أبو الحسن الشاذلي والذي ولد بشاذلة بالمغرب ثم توجه لعدة دول إسلامية إلى أن انتهى به الأمر إلى الإسكندرية وتوفي بها وهو متوجه للحج وقد تتلمذ على يديه كبير علماء مصر العز بن عبد السلام...
الإمام البوصيري من قبيلة صنهاجة الأمازيغية المغربية، ذهب إلى مصر رفقة والده حيث واصل تلقيه العلوم العربية والأدب واشتهر بشعره في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام وأهم قصائده قصيدة "الكواكب الذرية في مدح خير البرية" المعروفة بالبردة في المغرب ...
الشيخة الصالحة وهي أم عبد الكريم فاطمة بنت الشيخ أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري البلنسي، اصطحبها أبوها في رحلته الواسعة في المشرق وأجازها شيوخ من البغداديين والأصبهانيين والخراسانيين.
تجردت للعلم والعبادة وحدثت بدمشق وبمصر . توفيت بمصر في ثامن ربيع الأول سنة ستمائة . ودفنت بصفح المقطم.
وبمدينة الخليل الفلسطينية، علماء مغاربة أهمهم الشيخ السقواتي ويطلق عليه أيضا محمد بن عبد الله الحسيني وهو من أشراف مدينة الخليل بفلسطين وأصوله من الساقية الحمراء جنوب المغرب. انشأ الطريقة الخلواتية التي لها امتداد حتى في الأردن. ولا زالت هذه الزاوية قائمة حتى الآن تحت اسم زاوية المغاربة.
وبمصر أيضا إبراهيم الدسوقي، سيدي علي وفا، وغيرهم من العلماء المغاربة المعروفين بالمشرق والمتوفين هناك...
علماء جالوا العالم وغالبيتهم تتلمذ بأول جامعة وأعرقها في العالم وهي جامعة القرويين بمدينة فاس، العاصمة العلمية للمملكة المغربية، ولكنهم أيضا كانت لهم دعوة جهادية بحيث كانوا يدافعون عن وحدة بلدهم ضد الاستعمار والانتهاكات الأجنبية ومن بينها زاوية الشيخ ماء العينين الذي جعل من زاويته طريقا للنضال من أجل الدفاع عن أرض المغرب الطاهرة.
هذه الأخلاق الإسلامية الرفيعة التي حملها الفكر الصوفي المغربي، كانت دائما مثار إعجاب من الأجانب حتى من غير المسلمين لرحمة أهلها وانفتاحهم عن الآخر ونبذهم العنف والتطرف، هكذا عرفنا جدودنا قبل المد المتطرف الذي لم نتربَّ على نهجه ولم نكن حتى نسمع عنه قبل انتشار القنوات الفضائية المروجة له التي باتت تغزو بيوتنا ...
التصوف طريق التسامح في المغرب ... فقد كان دائما اليد التي تصافح الجميع وتدعو للإسلام بالمحبة والخير والسلوك الحسن ولم تقطع يوما يداً ولم تنبذ روحاً ...
بشرى شاكر