آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التــبـــيّـــــن أو التجربة الصوفية


التبيّن الصوفي للعالم

لقد كان استشفاف ما وراء العالم المادي من النوازع الملازمة للتصوف، بل هي مصاحبة للتفكير الإنساني عامة، لكن الصوفي أكثر من غيره تطمح روحه إلى اختراق هذا العالم باعتباره ظلمة كثيفة تحجب البصائر عن درك الحقائق، هذه البصائر التي جُعلت في الإنسان قوة بإمكانها أن تتجاوز عالم الملك الذي هو مجال القوى الحاسة فقط، لتدرك ما وراء هذا العالم من غيوب، ولو أن تشوف الصوفية إلى العيوب النفسية (الباطنية) خير عندهم من التطلع إلى الغيوب الكونية .

وقد تقدم لنا أن بيان الإنسان يتحقق عن طريق وظيفتين أساسيتين تستندان إلى أهم قوتين من قواه الطبيعية، وهما وظيفة التبيّن ووظيفة التبيان، ولما كان الإنسان في اعتبار الصوفية ظاهرة مناظرة لظاهرتي العالم والقرآن، فإن وظيفة التبين الإنساني لابد أن تشتغل بما يناسب تلقيها من الظاهرتين المناظرتين له، وللصوفية في تبين هاتين الظاهرتين مسلك خاص سنحاول توضيحه.

إن جمع الإنسان للأبعاد الذاتية الثلاثة، (البعد النفسي والبعد القلبي والبعد الروحي) من جهة، ومناسبة تلك الأبعاد للمراتب الوجودية الثلاث (عالم الملك وعالم الملكوت وعالم الجبروت) من جهة ثانية لم يكن في رؤية الصوفية إلا بهدف تحقيق الغاية من الخلق، وذلك بجعل معرفة الإنسان تلك العوالم أمراً ممكن الحصول عن طريق الوسائط السببية المناسبة لمسبباتها، فتحقق الإنسان بمعرفة كل مرتبة وجودية يحصل في لحظة تحققه الذاتي بالبعد المناسب لتلك المرتبة، بل إنه تحقق معرفي واحد ينطلق من الذات ويعود إليها، فبتحقق الإنسان ببعده النفسي يتم إدراكه لعالم الملك، لأن الإنسان نسخة مصغرة لهذا العالم، وبتحققه ببعده القلبي يعقل عالم الملكوت لأن الإنسان برنامج العالم الجامع لفوائده، كما أنه بتحققه بالبعد الإلهي المتجلي في الوجودات كلها قد يتاح له شهود عالم الجبروت، بمعنى أن تلك الأبعاد الذاتية للإنسان ليست أدوات مستقلة عن العالم الموضوعي أو ينحصر دورها في أنها وسائل لعمليات الإدراك الخارجي، ولكن معرفة تلك العوالم والوجودات مطوية في فطرة الإنسان بكيفية مسبقة بفضل التعليم الإلهي لآدم عليه السلام، وبذلك صار مجمع حقائق الأسماء التي قامت بها جميع العوالم، ولولا ذلك ما أمكن للإنسان أن يدرك شيئاً ولا أن يعرفه.

فمعرفة الإنسان إذن ليست ناتجة فقط عن التناسب الحاصل بين أبعاده الذاتية ومراتب الوجود تناسباً يتولد عنه استعداد للمعرفة بعد الجهل، ولكن تلك المعرفة كامنة في تكوينه أصلا، ثم إنه في حياته على الأرض يستحضرها بواسطة أسباب غالباً ما تكون ظاهرة التسلسل الحسي أو الذهني (مع غموض عمليات الإدراك والتعلم) فحقيقة المعرفة (التبّين) الإنسانية، في رؤية الصوفية، هي إعداد إلهي يتمثل في الهداية والتوفيق لما كان مقدوراً لذلك الإنسان أن يعرفه في حياته، وناتجة في ظاهر الأمر عن الأسباب التي يركبها. وقد انطلق الصوفية في هذا الفهم من الآيات القرآنية التي تفيد بأن الله هو مصدر العلم الإنساني مثل قوله تعالى:﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (البقرة 30) و﴿وخلق الانسان علمه البيان﴾ (الرحمن 2) و﴿وعلم الانسان ما لم يعلم﴾ (العلق 5) وغيرها ، وهو تصور لايختلف فيه علماء الإسلام، وأهل السنة منهم خصوصاً؛ ولئن اختلف بعض المفسرين في المقصود من "الأسماء" في الآية السالفة، فجميعهم متفق على أن أصل كل علم هو الله، وأن وظيفة الإنسان أن يكسبه كأي شيء مخلوق، بل إن الإيمان والهدى والمعرفة عطاء من الله وإشهاد لبني آدم على أنفسهم قبل وجودهم على الأرض، وما دور الرسل إلا التذكير بتلك المعرفة المبثوثة في فطرة الإنسان﴿فذكر إنما أنت مذكر ﴾ (الغاشية 21).

وعندما اعتمد الصوفية تقسيم الوجود إلى ثلاث مراتب: وهي الملك، والملكوت والجبروت (أو الحقائق الإلهية التي لم تدخل عالم التكوين)، فإنهم لم يقصدوا بهذا التقسيم إلى أن هناك ثلاثة أنواع متمايزة من الموجودات، ولكنهم اعتبروا أن محل تلك الموجودات واحد وأن التراتب فيها ليس إلا من حيث أصلية المرتبة أو فرعيتها، فالأمر عندهم اعتباري، تختلف التسمية باختلاف الرؤية كما تختلف الرؤية باختلاف الترقي في المعرفة؛ فالعالم الداخل في التكوين عالم ملك ظاهر بالنسبة لمن بقي مفرقاً فيه بين الموجودات، منحجباً بها عن موجدها، وهذا العالم نفسه عالم ملكوت باطن بالنسبة لمن بلغ "مقام الجمع" فيه وشهد النور الفائض من الجبروت، ولكن من غير أن يضمه إلى أن أصله، أما من تحقق بأصل النور، فلا يبقى العالم في حقه إلا تجلياً لأنوار الجبروت . فالموضوع واحد ولكن طبقاته متعددة، ويتفاوت إدراك تلك الطبقات بتفاوت قوة المدركين، كما تتفاوت أبصار العيون في تبين شيء بعيد خلف ستر رقيق، بل إن أنوار عالم الملكوت ليست إلا أنوار القلوب المشاهدة لها، كما أن عالم الجبروت ليس غير انوار الأرواح الحاضرة فيها؛ فما سوى الحق، عند العارفين، خيال وهمي لاحقيقة لوجوده في العالم الخارجي، بمعنى أن الصوفي الواصل يعرف حقائق هذه العوالم من خلال معرفته بذاته، حينما تفيض الأنوار الإلهية من روحه على قلبه، باعتبار أن الإنسان مجلى ومجمع تلك الحقائق في سابق علم الله بالإنسان وتعليمه إياه بعد إيجاده، كما تقدم القول.

لذلك فإن الصوفية المسلمين يضعون أنفسهم داخل رؤيتهم الوجودية الخاصة، فيغدو لعالم الغيب حضور واقعي دائم في شعورهم، بحيث إن تعاملهم معه في كل مدارج سلوكهم مزامن لتعاملهم مع عالم الشهادة باعتبارهما وجهين يدلان على حقيقة واحدة مناظرة لحقائق الانسان، وما على الصوفي إلا أن يفك رموز الظاهر للوصول إلى الباطن متوسلاً بالتجربة الروحية المترواحة بين ظاهر الصوفي وباطنه؛ فالأكوان الظاهرة (عالم الشهادة) عنده علامات تشير إلى حقائق باطنة فيها (أو فيه)، وعليه أن يعمل على تطهير باطنه عبر تجربة شعورية تمكنه من أن يتلقى معاني تلك الإشارات ويفهمها ويؤولها، سواء صرح بهذا التأويل أم لم يصرح ؛ وكلما استغرق عالم الغيب شعور الصوفي ضعفت قيمة عالم الشهادة عنده وتأثيره فيه، إلى أن يندرج هذا العالم في عالم معنوي واحد، ذلك أن روح الصوفي العارف تغــّيب هذا العالم وتتغرب عنه إذ تتحقق بالحضور الإلهي الذي يصير كل موجود مستمداً وجوده من هذا الحضور، فلا يبقى للعالم من وجود أو معنى إلا مايكون به إشارة إلى الموحد أو ما يتعلق بمراحل السلوك الأخلاقي للمتصوف القاصد إلى كمال العرفان.

ولما كان مقصد الصوفي أن يصل إلى معرفة خالق الأكوان، وكانت هذه الأكوان المحسوسة (عالم الملك) شاغلة لقواه الإدراكية في البداية، فإن على الصوفي أن يحد من ذلك الاشتغال وأن يشحذ القوى الداخلية (البعد الروحي) بتوجيهها إلى مكّون الأكوان عن طريق الأعمال التعبدية حتى تنقدح في باطنه الأنوار التي بها يدرك حقائق المكونــّات، وهذه الرحلة من الكون إلى المكون، وهي رحلة معنوية يقوم بها الصوفي عبر ذاته، تتطلب مقاساة أعمال تخلص ظاهره من العادات، ومعاناة أحوال تجرد باطنه من التعلقات، فعلى الصوفي أثناء هذه الرحلة أن ينظر في "المكونات" وهو يستند قول الله تعالى:﴿ انظروا ماذا في السموات والأرض﴾ (يونس 151) ولم يقل: انظروا السموات والأرض ؛ ولما كانت آيات من القرآن متعددة تأمر بالسير في الأرض والنظر في المبادئ والعواقب، فإن الصوفية اجتهدوا في أن تعتبر قلوبهم بباطن الأكوان، وأن لا تغتر نفوسهم بظواهرها  ؛ولايتم للصوفي السير في هذا الاتجاه إلا بالعناية الإلهية التي تعينه على الحد من التعلقات النفسية، والإقبال بإخلاص الكلية على البارئ تعالى في جميع الأوقات دون توقف ولا فتور في الهمة أو توزع في التوجه، حتى تتم له المناسبة بين بعده الروحي وبين الغيب الإلهي، الذي هو «حضرة القدس وينبوع الوجود» ،فتنعكس على صفحة ذلك البعد أنواع العلوم والمعارف التي تتنوع وتختلف باختلاف تجليات الأسماء على الموجودات.

وحينما يحصل للصوفي شهود المكون في نهاية سفره، لا يبقى له شأن مع الأكوان الحسية ولا المعنوية أيضاً،« فلربما وقفت القلوب مع الأنوار [الملكوتية] كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار» (المُلكية)، بل تغدو الأكوان عنده ظلمة لا ينيرها إلا ظهور الحق فيها بحيث لا يراها إلا به وبعده، بعد أن كان يراها قبله حين كان يعوزه وجود الأنوار،إذ كان يستدل على المؤثر بالآثار مثل عامة النظار، ولكن بعد حصول العرفان ينعكس الاستدلال المعروف بالمخلوق على الخالق فيصبح الخالق هو الدليل على كل ماسواه عند العارف الذي يتساءل عند الوجد بعد الفقد: «متى غاب حتى يُستدل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟». إن الاستدلال بالمخلوق على الخالق عند الصوفي لا يوصل إلى المعرفة الحق، إنه استدلال لا يدل إلا على عدم الوصول إلى العلم بالله يقيناً؛ فكيف يدل عليه شيء وهو الذي أظهر كل دليل؟ بل إن الأكوان لا تثبت إلا بإثباته، وهي مضمحلة بظهور صفاته، كما هي ممحوة بأحدية ذاته، فر غرو أن يصيح العارف بالله منتشياً من فيض وجوده، «شتان بين من يستدل به وبين من يستدل عليه» .

وبعد أن يثبت الصوفي الأكوان بالمكون، لا يبقى له إلا أن ينظر في أحكامه فيها وحكمه، ويؤدي حقوق الخالق عليه فيها، ويتأدب بأوصافه تعالى وأفعاله مع المخلوقات لعلمه أن علم تلك الأوصاف والأفعال وهب إلهي يلزمه الشكر عليه للاستزاده منه، وهي عملية جدلية تصحب الصوفي إلى منتهى أمره.

ولم يكن قصد الصوفية من سلوكهم معرفة حقائق الأكوان وأسرارها، ولكن مجاهداتهم كانت دوماً من أجل الحصول على رضا الله والاطمئنان إليه، وقد علموا أن ذلك لايتم إلا بمزيد التقرب إليه، وأثناء هذا التقرب يجدون مزيد يقين، فيزيدهم معرفة يزدادون بها مجاهدة وتأدباً. وأثناء السير تهب على قلوبهم معارف تتعلق أحياناً بظاهر الأكوان (عالم الملك) وأحياناً بباطنها (عالم الملكوت)، وقد ضمنها بعضهم كتبه أو خصها بتأليف مستقل، بحيث إننا نجد في بعضها وصفاً دقيقاً للعوالم التي هي خارج المجموعة الشمسية ولأصل هذه المجموعة، (بما يتفق مع نظرية الكتلة الواحدة)، وبدء تكوين أجرامها ومخلوقاتها وموقع الأرض منها وقوانينها الطبيعية من حركة وكسوف وخسوف وأمطار، إلى غير ذلك من المشاهدات التي يُستشهد لها أحياناً بنصوص النقل من قرآن وأثر، وأحياناً أخرى بأدلة العقل والخيال والاحتمال والجدل، وقد يرفق ذلك برسوم لأشكال الموجودات الكونية ومكوناتها ؛ ومما يستغرب له أن كثيراً من المعلومات والمصوّرات تضارع ما اكتشفه العلم الحديث مؤخراً.

غير أن الصوفية في معراجهم الروحي اعتبروا أن انكشاف هذه المعلومات الكونية، الظاهرة منها والباطنة، من قبيل المواهب والأفضال الإلهية للتثبيت والتشجيع على المسير، وأنها غير مقصودة لذاتها، وقد تكون في ذات الوقت اختباراً للسالك ومزلقاً من مزالق الطريق حينما يعتد بها ويقف عندها معتقداً أنها المرحلة النهائية المقصودة، فتنقلب فتنة قاطعة عن السلوك، ويعبر ابن عطاء الله عن ذلك بقوله: «ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار» ، وقد يصلح لتصوير خطر هذه المفاوز على المتصوف ما وقع للشيخ أحمد بن عليوة مثلاً مع الواردات الكونية التي كانت تهجم على قلبه وتلاحق أفكاره، إذ تخوف منها وأخذ يحاول إبعادها وعدم الاعتماد على مقتضاها، وعندما استحكمت من فؤاده علم أنه مقصرواعتقد أنه أصبح أسير تلك المعارف، فشكا الأمر أخيراً إلى شيخه الذي أشار عليه بأن يكتبها ليتخلص منها . لذلك نجد الصوفية يحذرون المريدين من التوقف في تلك المراحل مذكرين بقول الله:﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ (النجم 42)،كما يحذرون من الاكتفاء بمثل تلك الكرامات والاغترار بها « فربما رزق الكرامة من لم تكمل له الاستقامة» كما قال الإسكندري ، فالاستقامة عندهم خير من ألف كرامة، كما أن التشوف إلى العيوب النفسية خير من التطلع إلى الغيوب الكونية، كما أشرنا سابقاً.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية