الكلام في كون الكلام معجزة للنبي عليه السلام
المعجزة : خصلةٌ تدلُّ على صدقِ من ظهرت على يده في دعوى الرسالة يَستدلُّ بها المستدِلُّ على أنه صادقٌ في دعواه. والمعجز في الحقيقة هو الله سبحانه لأنه فاعل العجزِ إلا أنه يقال لهذه الخصلة التي يظهر عند وجودها عجزٌ من تحدّي بالاتيان بمثلها معجزةً مجازاً.
ومن شرائط المعجزة أن تكون خصلة ناقضة للعادة خارجة عن طوق البشر توجد في زمان التكليف مع اقتران التحدي بها في دعوى النبوة على جهة الابتداء.
فإذا اجتمعت هذه الخصال فيها فهي معجزة دالة على صدق من ظهرتْ على يده فيمن تتضمّن دعواه، ومعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة. والاعتماد على القرآن فإنه المعجزة التي يُقطَع بصحَّتها ويوجب بانفراده العلم بصحة الرسول صلى الله عليه وسلم.، وصدقه في دعوى الرسالة، وما عدا القرآنِ فإنه يوجب التَّأنيسَ ولا توجب شيئاً بانفرادها لنا العلمَ، وإن كان فيها ما يوجب العلم الكسبيّ أيضا مما طريقُهُ الاستضافةُ، كما رُويَ أنه أشبع الخلق الكثير من الطعام اليسير وانه ينبعُ الماء من بين أصابعه وحنينُ الجذع وغير ذلك.
وقيل إن مجموع هذه الأشياء أخبارٌ توجب العلم بصدقه، وإن كان كل واحد منها بانفراده لا يوجب العلم كما نعلم أن حاتماً جوادٌ بما نقل إلينا من أخباره ثم كل واحد مما نُقلَ إلينا من أخباره لا يوجب العلم ومجموعه يوجب العلم حتى أنه لا يشكُّ من سمع الأخبار أنّ حاتماً كان سخياًّ.
ووجه الإعجاز في القرآن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى بهذه القراءة على طريق الاستئناف لا على الحكاية والتلقُّف عن أحد من الخلق فتحدّاهم عليه السلام أن يأتوا بمثله على غاية الفصاحة في النظم والإعجاز مرتفعا عن حدّ الرَّكاكَةِ والرَّذالة منحطًّا عن رتبة...(*) خارجاً عن حدّ التكليف تحدّاهم بمثله فعجزوا عن ذلك.
ثم رجع إلى أن يأتوا بعشر سوَرٍ مثله فعجزوا ثم رجع إلى سورة واحدة فعجزوا، بدليل أنهم عدلوا عن مجاراته إلى محاربته، ولم يأتوا بما طالبهم به من شدّة حرصهم على تكذيبه وفرط تقصّيهم وحميتهم فدلَّ ذلك على صدقه وعجزهم ولو عُرض النبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به لنقل أعداؤه مع كثرتهم ولم يبق على مرّ الزمان كما نُقِلَ ما عورض به مما يوجب العلم بسخافة قائله وقلة تحصيله كما قالوا : قد أفلح من هينمَ في صلاته واطعم المسكين من مخلاته وأخرج الزكاة من إبله وشاته، وكقول مسيلمة :
والزارعات زرعاً والحاصدات والطاحنات طحناً والخابزات خبزا فالثاردات ثرداً يا ضِفدَع بنت ضفضع إلى كم تنقّين لا الماء تكدرين ولا الشُّرب تمنعين. فهذا وأشباهه يدل على قلة تحصيل قائله.
واعلم أنّ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم هي المعجزة فأمّا عين كلام الله سبحانه فلا يقال له معجزة ولا دلالة. وقد ذكر بعض المحققين أنّ عين الكلام معجزة حكاه الإمام ابن فُورَك رحمه الله عن القاضي أبي بكر الأشعري أنه ذكرهُ في كتاب الانتصار ثم قال : إنه لا يصحُّ ذلك لأن عين كلامه قديمٌ، والقديمُ لا يختصُّ به أحدٌ دون أحدِ، ولا يجوز أنْ يكون عينُ كلامه دِلالة لأنّ الدلالة تكون بالمواضعة والاصطلاح او التوقيف أو الفعل كدلالة الفعل على الفاعل وصفاته وهذه المعاني في كلام الله سبحانه معدومة.
واختلفوا في أقلِّ ما هو معجز فمن النّاس من قال جميع القرآن معجزة واحدة لأن التحدي حصل بجميعه في قوله : {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ} الآية [الإسراء : 88]. ومنهم من قال أقل ما هو معجزةٌ عشر سور طوال وقال شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه : أقل ما هو معجزة سورة سواء كانت قصيرة أو طويلة وأقصر السور سورة الكوثر وفيه معجزتان للنبي صلّى الله عليه وسلّم إحداهما : من طريق الخبر حيث قال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر :3] فمات العاصِ بن وائل أبترَ.
والثاني : أن هذه السورة مع قصرها اجتمع فيها جزالة اللفظ ورصانة المعنى والإنباء عن جملة العبادة بقوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
وأمّا وجه الإعذاز في القرآن فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم : إنَّ جنسه كان مقدوراً لهم، ولكنّ الله صرف دواعيهم عن الإتيان بمثله وكان صرف دواعيهم عن ذلك معجزةً، وهذا كما يقول الرجل علامة صدقي ان أقوم الساعة وأنتم قادرون متمكّنون من القيام فلا يستطيع أحد منكم أن يقوم فإذا قام هو، وعجِزوا دلّ على صدقه قالوا : ولو أنهم قدروا بعد دعواه على القيام كان ذلك أدل على صدقه فكذلك لا ينكر ان يؤتى بمثل القرآن بعد الرسول فلا يدلُّ على فساد القرآن بل يدل ذلك على صدقه لأنهم كانوا عاجزين في وقت التّحدّي وهذا باطلٌ لأنه لو كان الأمر على ما قالوه لكان ذلك بأركِّ كلامٍ وأوضعِ عبارةٍ لأن العجز عن مثل ذلك أبينُ وأدلّ على صحة التحدّي به إن كان على ما قالوه وبعض النّاس قال الإعجاز لم يتعلق بنظم القرآن وإنما تعلَّقَ بما أودع فيه من الإخبار عن الغائبات والصحيح من القول أن الإعجاز في القرآن من أربعة أوجه :
أحدهما : النَّظمُ البارع.
والثاني : إخباره عن القرون الماضية والأيام السالفة من غير أنْ عُلِّم عليه السلام برواية الأحاديث وقراءة الكتب وتعلُّم السير.
والثالث : إخباره عما يكون في المستقبل فكان الوجهُ الذي قاله قطعا.
والرابع : أن العادة جَرَتْ بأنَّ الكلام الواحد إذا تكرر على الأسماع مجّته الآذان، وملَّته القلوب، والقرآن يزداد بكثرة تكرُّره على الأسماع طلاوة في النفوس وحلاوة في القلوب حتى أقر بذلك الجاحد والملحد.
(*) وقع هنا في النسخة (ل) : كلمتان غير واضحتان