فإن قيل فإذا كان المختار من هذه الأقاويل عندكم أن كلام الله يسمى قرآنا لأنه مقروء تسميةً باسم المصدر الذي هو قرآنٌ فعلى هذا تسميته بالقرآن مجاز، وحقيقة القرآن أداء القراءة فإذا قال القائل : القرآن مخلوق فهو حقيقة، وقول من قال القرآن غير مخلوق مجاز ؟! قيل ليس الأمر كما قلتَ لأنه وإن كان أصله فيه ما قلنا فقد قُرنَ به كثرة الاستعمال حتى صار كالحقيقة فيه حتى لا يُعلم منه عند الإطلاق غيره، فالقرآن وإن كان حقيقته القراءة فقد كثر استعماله في تسمية كلام الله تعالى حتى صار كأنه حقيقة في ذلك دون أصله، وهذا كقولهم رفع فلان عَقيرَتَهُ يَعْنون صوته. والعَقيرَة في الأصل الرِّجل المقطوعة، ومثله التيمم والاستنجاء وغيره.
ثم المصحف يقال له قرآنٌ مجازاً لأنّ كلام الله سبحانه مكتوبٌ فيه على الحقيقة بمعنى وجود كتابة فيه دالَّة على عينِ المكتوب.
وقوله : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ﴿17﴾ [القيامة]، أي لا تستعجل في التلقُّف من جبريل إنّ علينا جمعه في قلبك حفظاً، وجمعه في لسانك تلاوةً {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة :17] جمعناه في قلبك في قول قتادة، وبيَّناه في قول ابن عبَّاس، { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ} بيانه وجمعَه.
وقوله : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}[القصص : 85].
قيل معناه قراءة القرآن فتكون القراءة مضمَرة فيه وقيل معناه : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ} القراءة. وقوله : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [اللإسراء : 78].
قيل معناه : أقم قراءة الفجر أي القراءة في صلاة الفجر، وقيل {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر سَمّى الصلاة قرآنا لأنها محلُّ القرآن كما سُمِّيت القراءة صلاة في قوله : (قَسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نِصفَين). يعني القراءة في الصلاة.
وقوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ}[الأعلى : 6]أي سنجمعُ حفظَه في قلبك وقيل سنبيِّنُه لك.
واعلم أنّ للقرآن أسماءً كثيرة يعود معناها إلى العبارة والتّلاوة المخصوصة الواردة بلغة العرب فسُمِّي هذا النظم المخصوص بأَسامٍ وإنْ قيل إنّ التسميات تعودُ إلى عين الكلام لأن معانيه تعود وتوجد في العبارة لكان وجها صحيحاً فمن ذلك الهدى قال الله تعالى : {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} معناه أنه بيان ودلالة في نفسه فمن تأمَّله واتَّقى تَرْكَ النظرِ فيه اهتدى في دينه لما أودع الله فيه من دلائله وأعلامه.
ومنه الفرقان قال تبارك وتعالى : {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ} [الفرقان : 1] والفرقان مصدر فَرَقْتُ الشيء وفَرَقْتُ بين الشيئين أَفرق فَرْقا وفُرقانا فالقرآن فرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل ويفرق بين الحلال والحرام ويفرق بين المؤمن والكافر بما أُودع فيه من آياته، وقال ابن عبَّاس : الفرقان هو المخرج، وبه قال مجاهد وقال عكرمة : هو النجاة في قوله (ويجعل له فرقانا) وأنشد أبو عبيدة :
بادرَ الّليل أنْ يَبيتَ فلما أظلمَ الّليل لم يجد فرقاناً
أي مخلصاً ونجاةً، والألفاظ في هذا متقاربةُ المعاني فقد تبيّن أنَّ القرآنَ سُمي فُرقاناً لفصله بحُججه وأدلته بين المحقِّ والمبطلِ وفرقانه بينهما.
فأمّا قوله : {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}[البقرة : 53] فقال بعضهم : فرقُ ما بين الحلال والحرام، وقال بعضهم : فرقُ البحر وفَلقه.
ومن ذلك المتشابهُ قال الله تعالى : {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا}[الزمر : 23] قيل معناه متماثلا في حسنه وبيانه وحكمته ونظمه وإعجازه غير مختلف في شيء من معانيه يصدِّق بعضه بعضاً كما قال الله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء : 82].
من ذلك المثاني : قال الله تعالى : {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ}[الزمر : 23] لأنها تثني المئين فتليها فكأنّ المِئين لها أوائل والمثاني لها ثوان، وقيل سُمّيت بذلك لتثنيةِ الله سبحانه فيها الأمثال والخبر والعِبر، وهو قول ابن عباس رواه ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير : سُمّيت مثاني لأنها ثُنِّيت فيها الفرائضُ والحدود.
وقيل المثاني : هو جميع القرآن.
وقيل هي فاتحة الكتاب لأنها (تُثنَّى) قرائتها في كلِّ صلاة، وقيل سميت المثاني لتثنية الله تعالى فيها مدَح الله وحسنَ الثّناءِ عليه.