وأطال الشعراني في ترجمته في الطبقات بما يدل على كمال خصوصيته وتمام ولايته. وما حمل الشيخ زروقاً على مقالته تلك إلاّ القوّة التي صدرت من أبي المواهب مع كونه لم تطل صحبته معه مع ما صدر منه في جانب الشيخ ابن عباد رضي الله عنهم ،والله تعالى أعلم.
وهذا الأمر الذي ذكرنا من القوة التي في العارفين لا يجهله إلاّ من يبلغ مقامهم، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم. وسرّ هذه القوة التي ظهرت في العارفين هو من جهة الروح، وذلك أن الروح جاءت من عالم العزّ والقوة، فلما ركبت في هذا البدن حجبت وقهرت، فأرادت الرجوع إلى أصلها فطلبته بالعز الأصلي والقوة الأصلية فمنعت منه، وأتت من كوة الذل والافتقار وخرقت عوائد نفسها فانخرقت لها حينئذ الحجب فرجعت إلى أصلها، فلما رجعت إلى أصلها، اتصفت بالقوة التي كانت لها فأمرت أن تجعل ذلك في باطنها ففعلت لكن ربما رشح شيء من ذلك على الظاهر غلبة.
ولذلك ذكر الشيخ خرق العوائد بأثر ذكر التحقق بالعبودية، فقال :
(كَيْفَ تُخْرَقُ لَكَ العَوائِدُ وَأنْتَ لَمْ تَخْرِقْ مِنْ نَفْسِكَ العَوائِدَ)
قلت : العوائد كل ما تعوّدته النفس وألفته واستمرت معه حتى صعب خروجها عنه سواء كان ظلمانياً أو نوراناً كتتبع الفضائل وكثرة النوافل، وهي على قسمين :
عوائد ظاهرة حسِّية، وعوائد باطنة معنوية .
فمثال العوائد الحسِّية : كثرة الأكل والشرب والنوم واللباس وخلطة الناس والدخول في الأسباب، وكثرة الكلام والمخاصمة والعتاب والأستغراق في العبادة الحسِّية أو العلوم الرسمية وغير ذلك.
ومثال العوائد المعنوية : حب الجاه والرياسة وطلب الخصوصية وحب الدنيا والمدح، وكالحسد والكبر والعجب والرياء، والطمع في الخلق وخوف الفقر وهمّ الرزق والفظاظة والقسوة وغير ذلك مما تقدم. فمن خرق من نفسه عوائدها الحسية بالرياضات القهرية خرقت له العوائد الحسية كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، ونفوذ الدعوة وغير ذلك من الكرامات الحسية، ومن خرق من نفسه عوائدها المعنوية خرقت له العوائد الباطنة كرفع حجب الغفلة وتطهير القلوب وكشف الحجاب وفتح الباب وتحقيق العرفان والترقي إلى مقام الإحسان وهذا هو المعتبر عند الأكياس وهو المطلوب من سائر الناس.
وأما خرق العوائد الحسّية فقد تكون لمن ليست لهم خصوصية كالسحرة وأرباب الشعوذة ، نعم من جمع بينهما خرقت له فيهما. فكيف تطلب أيها المريد أن تخرق لك عوائد نفسك حتى تدخل حضرة قدسك وأنت لم تخرق عوائد نفسك فما حجب النفس عن الشهود إلاّ ما تعوَّدته من رؤية هذا الوجود، فلو غابت عن رؤية هذا الوجود لتحقق لها أمر الشهود ولا يمكن أن تغيب عنه إلاّ بخرق عوائد نفسها.
وقد تقدمتْ حكاية الرجل الذي كان مع أبي يزيد ثلاثين سنة فلم يذق شيئاً، فقال له : لو صلّيت ثلاثمائة سنة لم تذق شيئاً لأنك محجوب بنفسك. ثم قال له : اذهب الساعة إلى الحجام واحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلِّق في عنقك مخلاة وأملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك : يا صبيان من يصفعني صفعة أعطه جوزة، وادخل السوق وأنت على هذه الحالة حتى ينظر إليك كل من عرفك، ثم قال له : فلا مطمع لأحد فيما حجب عن العامة من أسرار الغيب حتى تموت نفسه ويخرق عوائد العامة، فحينئذ تخرق لك العوائد وتظهر لك الفوائد.اه.
وتقدمت أيضاً في باب الخمول قصة الغزالي والشتتري والمجذوب وغيرهم ممن خرقوا العوائد فخرقت لهم العوائد وظهرت لهم الفوائد. وأما من بقي مع عوائد نفسه فلا يطمع أن يتمتع بحضرة قدسه. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه : "من ادعى شهود الجمال قبل تأدّبه بالجلال فارفضه فإنه دجّال"، ولا جلال أعظم على النفس من خرق عوائدها كتبديل العز بالذل والغنى بالفقر والجاه وبالخمول وغير ذلك.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذلّ حتى عزُّوا، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، فلا مطمع في نيل العز بالله حتى يتحقق بالذلّ له ولا في نيل الغنى به حتى يتحقق بالفقد مما سواه.
وقال أبو حمزة البغدادي رضي الله عنه : "علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذلّ بعد العزّ، ويخفى بعد الشهرة" فهذه الأخبار كلها تدل على أن خرق عوائد النفس شرط في تحقق نيل الخصوصية، فمن ادعا ما قبل أن يخرقها فهو كذاب، كما تقدم عن أبي المواهب.
وكتب شيخ شيخنا رضي الله عنه إلى بعض الإخوان، أما بعد : "فإن أردتم أن تكون أعمالكم زكية وأحوالكم مرضية، فقلّلوا من العوائد فإنها تمنع الفوائد" وسمعته رضي الله عنه يقول : "من جملة العوائد تتبُّع الفضائل وكثرة النوافل، فإنه يشتت القلب، وإنما يلزم المريد ذكراً واحداً وعملاً واحداً كل واحد مما يليق به". أو كلام هذا معناه.
فخرق العوائد إبدالها بضدها كتبديل كثرة الأكل والنوم وبالجوع والسهر، وكتبديل كثرة اللباس بالتقلُّل منه أو ما خشن من الثياب كالمرقعات ونحوها، وكتبديل الخلطة بالعزلة، والأسباب بالزهد، والكلام بالصمت، وسوء الخلق بحسن الخلق، وكتبديل حب الجاه والرياسة بالذلّ والخمول وسقوط المنزلة عند الناس، وحب الدنيا بالزهد فيها والفرار منها وكاتصافه بالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل، فإذا تحقق المريد بهذه الأمور خرقت له العوائد على ما يريد حتى يكون بسم الله عنده موافقة لكن من الله فيكون أمره بأمر الله {وما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم : 20].
ولا بد في خرق العوائد الباطنية من شيخ كامل جامع بين حقيقة وشريعة يحملك بهمّّته فإذا رميت يدك في نفسك حملتك الهمة ونصرتك القدرة فقتلتها بالمرة ،وأما إذا لم يكن لك شيخ فكلما قتلتها رجعت أكبر مما كانت، ولا تموت النفس الحية إلا مع الأموات كما قال شيخنا رضي الله عنه. هذا الأمر مجرب، وبالله التوفيق.