المقدمة الثالثة : في معنى السعادة الأخروية وتفاوتها، وحرص أهل الهمم على الفوز بالنوع الأعلى منها، وهو النظر إلى وجه الله، وطلب سببه المؤدي إليه، وهو معرفة الله في الحياة الدنيا برفع الحجاب.
اعلم أن معنى السعادة هو حصول النعيم واللذة باستيفاء كل غريزة ما يشتاق إليه مقتضى طبعها وذلك هو كمالها، فلذَّة الغضب بالانتقام، ولذَّةُ الشهوة بالغداء أو النكاح، ولذّةُ البصر بالرؤية، ولذَّةُ هذه الّلطيفة الروحانية بحصول العلم والمعرفة لأنه كما قدّمنا مقتضى طبعها وغريزتها، ثم تتفاوت اللذات بتفاوت الغرائز في أنفسها.
وقد تبيّن أن هذه الّلطيفة أكمل الغرائز المدركة، فلذّتها بالإدراك اتم وأعظم، ثم تتفاوت أيضاً بتفاوت المعلومات، فالعلم بالنحو والفقه والشعر ليس كالعلم بالله وصفاته وأفعاله، والاطّلاع على اسرارالسوقة والملاحين ليس كالاطّلاع على أسرار الملوك وبواطن تدبيرهم، ثم يتفاوت هذا العلم أيضاً مع الكسبي كما قدمناه.
فإذا كان في المعلومات ما هو أجل وأشرف، وفي العلوم ما هو أتم وأوضح، وإن كان الشوق إلى العلم به شديداً فالعلم به ألذ العلوم لا محالة، وليس في الوجود أعلى ولا أشرف ولا أكمل من خالق الأشياء وموجدها ومرتبها ومصورها، وهل يتصور أن تكون حضرة في الكمال والجمال أعظم من الربوبية التي لا يحيط بمبادئ جلالها وصفُ واصفٍ ؟ فإذن الاطلاع على أسرارها والعلم بترتيبها المحيط بكل الموجودات علماً لدُنِّياً إلهامياً واطلاعاً كشفياً هو أعلى أنواع المعارف وأوضحها وأكملها وألذها وأحرى ما يحصل به الابتهاج والفرح ويستشعر به الكمال.
فقد تبين أن العلم لذيذ، وأن ألذ العلوم معرفة الله وصفاته وأفعاله وتدبير مملكته بالعلم الإلهامي الَّلدُنِّي الذي قدمنا شرحه، ولا سيما من طال فكره في ذلك وحرصه على الاطلاع على أسرار الملكوت، فإنه يعظم فرحه عند الكشف بما يكاد يطير له، وهذا مما لا يدرك إلاّ بالذّوق، والحكاية فيه قليلة الجدوى، ولقد يستشعر شيئاً من هذه الّلذّة طلابَ العلم الكسبي عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي يطول حرصهم عليها وشوقهم إلى معرفتها.
فالَّلذةُ على ضربين : لذَّةُ الغرائز البدنية بحصول مقتضى طباعها، ولذّة القلب بحصول مقتضى طبعه وغريزته وهو العلم. وأعلاها لذّة معرفة الله تعالى وصفاته. ولذَّةُ جمال مطالعة حضرة الربوبيّة هي التي عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بشر)، إلا أن هذه المطالعة والمعرفة يقع فيها بعد الموت مزيدَ كشف واتّضاح كان البدن مانعاً منه ويتنزل منزلة البصر، وهو المعبر عنه بالرؤية.
وبيان ذلك أن البصر إذا رأى شخصاً ثم غمضت الأجفان دونه بقي متخيلاً، ثم إذا فتح أجفانه مرة أخرى رآه كما كان أولاً، فبين الحالين تفرقة، وليست إلاّ في مزيد الكشف والاتِّضاح والإدراك، وإلاّ فالمرئي بحاله، وكذا إذا أدرك هيكل شخص في غسق من الليل أو سدفه، ولم يتبينه، وحصل في خياله، فإنه إذا انتشر الضوء ووضح الصباح اتّضح إدراكه وأحاط به من جميع جهاته، والمرئي باقٍ بحاله.
فهذه رتبتان في الإدراك عندما يكون متخيلاً، ثم عندما يصير مرئياً، فلا يبعد إذن أن يكون في العلم بالموجودات البريئة عن الخيال كالباري وأفعاله رتبتان أيضاً : إحداهما أتم وضوحاً من الأخرى وتكون المتضحة منها بعد الموت بارتفاع حجاب البدن وزوال مانعه، وتكون نسبة البدن نسبة الأجفان التي كان انطباقها حائلاً دون كمال الإدراك ووضوحه في المتخيل، ونسبة الغسق والسدفة الذي كان مانعاً من ذلك، وإذا كان هذا الوضوح حاصلاً في الإدراك فما المانع أن يخلقه الله في العين أو فيما شاء من الجوارح والأعضاء، فإذا زال الحجاب بالموت وكان المحل صافياً عن الخبائث البدنية، والكدرات الخلقية، وأكمل الله تطهيرها وتزكيتها تجلى له الحق تجلياً يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه قبل كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله قبل، فالرؤية من غير شكل ولا تقدير صورة حق، وهي زيادة وضوح وكشف في المعرفة الحاصلة في الدنيا، والمعرفة لها كالبذر الذي ينقلب مشاهدة كما ينقلب البزر شجراً والبذر زرعاً، فمن لا نواة له لا يكون له نخل، فمن لم يلتذ بشيء من المعرفة هنا لم يلتذ بشيء من الرؤة هناك؛ إذ لا يستأنف أحد في الآخرة عملاً لم يصحبه في الدنيا، إنما هي دار جزاء لا دار تكليف. قال صلى الله عليه وسلم : (يموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه ) وإنما هو أن تنقلب المعرفة نظراً ومشاهدة فتعظم اللذة، كما تعظم لذَّة العاشق برؤية محبوبه. ولما كانت المعرفة السابقة في الدنيا تتفاوت إلى غير نهاية، فالتجلي أيضاً يتفاوت، وقد قدمنا تفاوت إدراك البصر في الشخص المرئي في سدفة الظلام، فلا يبعد مثله في تجلي الذوات البريئة عن الخيال. قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الله يتجلّى للناس عامّة ولأبي بكر خاصًّةً) وما ذاك إلاّ لما امتاز به من كمال المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم : ( مَا فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثيرِ صَلاةٍ ولا صِيامٍ ولكن بسرٍّ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ) إشارة إلى المعرفة كما قدمناه.
فقد تبين أن السعادة الأخروية للمكلف سعادتان : سعادته الجسمانية بلذة غرائزه وقواه، وسعادته القلبية بلذة النظر إلى وجه الله، وإن كانت جارحة النظر من البدن، فاللذة هي بالمعرفة الناشئة عن الإدراك وهي في القلب، وهذه السعادة أهم عند العارفين وأكبر، وهم لها آثر. قال الثوري لرابعة : "ما حقيقة إيمانك ؟ فقالت : ما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبًّا له وشوقاً إليه". وقيل لها : "ما تقولي في الجنة ؟ فقالت : الجار قبل الدار"، والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة.