وشروط هذه المجاهدة الإرادة أولاً، ثم الرياضة ثانياً، وليس قصدهم بالإرادة مدلولها في المشهور، وهو تخيُّل الشيء ثم القصد إليه، فإن هذا عندهم حديث نفس، وإنما الإرادة عندهم استيلاء حال اليقين على القلب حتى تنبعث العزائم بالكلية إلى الفعل مغلوبة فيه، فكأن المريد مجبور في إرادته لا مختار.
قال الأستاذ أبو القاسم : (الإرادة بدء طريق السالكين، وهي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله، وإنما سميت هذه الصفة إرادة لأن الإرادة مقدّمة كل أمر، فما لم يرد العبد شيئاً لم يفعله، فلما كان هذا أول الأمر لمن سلك طريق الله سُمِّي إرادة، تشبيهاً بالقصد في الأمور التي هي مقدمتها، والمريد على موجب الاشتقاق من له إرادة، كما أن العالم مَنْ له علم، لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد في هذه الطريقة من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريداًن كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريداً.
"وحقيقتها نهوض القلب في طلب الحق. وقيل : لوعةٌ تهوِّنُ كلّ روعةٍ".
وأما الرياضة وهي تصفية القلب عن الرذائل والخبائث المذمومة، وتزكيته بالفضائل المحمودة، التي هي الاستقامة والاعتدال في كل خلق من أخلاقه وغرائزه الجِبِلِّيَّة، فعلاج ذلك يكون في الظاهر أوّلاً برفض ما يقع إليه الميل غالباً، ويستهوي به الشيطان قلوب المؤمنين، من زينة الدنيا ولذّاتها، وهو الجاه والمال ومخالطة الخلق، وشهوات البطن والفرج، والراحات مثل النوم، قال الله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} فيتجنبها ويزهد فيها ويهجرها هجران الحيَّات القواتل ما دام مائلاً عن الاستقامة حتى يظفر بها ويتمكن في مقامها.
ثم يحتاج في الباطن إلى علاج ما تمكن من آثارها، وارتفعَ من علائقها، فلا بدّ أن يخليه من ذلك، كما أخلى الظاهر من أسبابه، وفيه تطول المجاهدة وتختلف باختلاف الأحوال والسِّن والمزاج، وما يغلب من الصفات المذمومة، وعلى ذلك غامض إلاَّ على من يسَّره الله لليسرى، وربما كان الشيخ من ميسرات الله له وأسباب هدايته.
والقانون العام في هذه الرياضة والعلاج مخالفة الهوى ومضادة الشهوة، والباعث في كل صفة غالبة على نفس المريد كما قدمناه، حتى تحصل الاستقامة والاعتدال، ويذهب الهوى والميل إلى شيء من جانبي الغرائز الجبليّة، فيتساوى عنده الفعل والترك والوجد، ويصرف قواه في طاعة الحق والعدل، فيتمحض لجانب الله، وحينئذ لا يترجح في حقه زهد، ولا تكسب، ولا رهبانية، ولا استمتاع. قال صلى الله عليه وسلم : (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليسَ منِّي).
وليأخد نفسه في هذه الرياضة بالتدريج، ولا يشاهدها فيكون كما قال صلى الله عليه وسلم : (كالمنبت لا أرضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى). وقال صلى الله عليه وسلم : (أحبُّ الأعمال إلى الله أدوَمُه)، وقال : (اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ). وأمثال ذلك كثير.
فإذا حصلت للقلب صفة الاستقامة تخلّق بخُلق القرآن وتأدَّب بآدابه، وكان متبعاً للسُّنّة، ولحق بمراتب أهل الصراط المستقيم صراط الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.