الفصل الثالث : وأمّا الزهد فهو للعوام
فصل وأما الزهد فهو للعوام أيضاً، فإنه حبس النفس عن الملذات وإمساكها بعد تفريق المجموع وترك طلب المفقود، وعن فضول الشهوات ومخالفة دواعي الهوى وترك ما لايعني من كل الأشياء. وهذا نقص في طريق الخواص، لأنه تعظيم للدنيا واحتباس على أبعادها، وتعذيب للظاهر بتركها، مع تعلق الباطن بها، والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهود حسك وبقائك معك على حرصك.
ألا ترى قول الله تعالى : {...الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} وإلى قوله لمن أعطاه الدنيا بحذافيرها : {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ...} فعافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها. فالزهد على الحقيقة صرف رغبة القلب إليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو سبحانه حسم هذه الأسباب عنك وتكون معه كالطفل ابن شهر مع أمه لا إرادة له ولا حكم مع أمه. كما قيل عن بعض المريدين سأل بعض الشيوخ فقال : أيها الشيخ بأي شيء تدفع إبليس عنك إذا قصدك بالوسوسة ؟ فقال له الشيخ : إني لا أعرف إبليس فأحتاج إلى دفعه، وإنما نحن صرفنا هممنا إليه وملأنا قلوبنا بذكره، فكفانا ما دونه. وكما قيل :
عَلِقْتُ بحبل من حبال محمد أَمِنْتُ به من طارق الحدثان
تَسَتَّرتُ عن دهري بِظِلِّ جناحه فَعَيْنِي ترى دَهْرِي وليسَ يَراني
فلو تسأل الأيام ما إِسْمي وأين مكاني ما عَرَفْتُ مكاني