ثالثا : سيدي حمزة عند اللقاء الباهر والتواصل المباشر
وصلنا مدينة الدار البيضاء لزيارة الشيخ سيدي حمزة، وبعد عدة اتصالات حصلنا على العنوان الذي يقيم فيه،ثم توجهنا إلى عين المكان.
لما دخلنا المنزل المضيف بدأنا ننتظر طلعة الشيخ،في حين كان قلبي يعرف ترقبا مضطربا ودقات سريعة وخفقانا غير معهود وتطلعا مشوقا لتحقيق هذا اللقاء،فتشخص لدي حينئذ معنى هذا البيت الشعري بكل حمولته الروحية والأدبية :
قد كانت أرواحنا دوما في اتصال أما اليوم فتجتمع الأجساد
فجأة! خرج علينا الشيخ بتحية السلام وبطلعته البهية،فاهتز له المجلس واضطرب اضطراب سرور وفرح لا خوف أو توجس،وصعق من صعق وبكى من بكى وارتبك من ارتبك!.
ما هذا الذي يحدث ويقع؟!إنه ليس رجل سلطة أو حاكما بالقوة حتى يحصل كل هذا،كما أنه لم تصاحبه مزامير أو جوقة وما إلى ذلك مما يمكن أن يؤثر على استقرار النفس وهدوء المجلس!
بل قد كان بسيطا في حركته وسلامه وهندامه،لكنه مع ذلك متناسقا في شكله من عمامته إلى جلبابه،مع استدارة وجهه واعتدال قامته وتقاسم الشيب للحيته،قد ابيضت عند مجمل ذقنه واسودت فيما عدا ذلك،بصورة جمالية مبرزة كمال رجولته في وقار وهيبة مريحة وغير مرعبة أو منفرة!.
عند هذا الاستقبال بدأ مقدم الطريقة بمدينة تطوان آنذاك يعرف الشيخ سيدي حمزة ببعض الإخوان الجدد الذين جاؤوا معنا.
فقد كان بعضهم لم يأخذ الورد بعد ثم أخذه في عين المكان! مباشرة بعد هذا اللقاء الباهر،وذلك لما ظهر على الشيخ من كرامات روحية وكشوفات معرفية جلية وخالية من أية مظاهر للدجل و الشعبذة،إذ الكل قد غرف بحسب نيته وأخذ من جنس مطلبه.
أتذكر في تلك اللحظة أنني ناديته ب :"يا سيدي حمزة أريد دواء لبعض الوساوس النفسية-أو ما في معناها-"!.
فالتفت إلي التفاتة وقورة وباستدارة أنيقة من دون أن يجيبني في الحين،لكن مقدم الطريقة بادرني في الحال بأن قال لي" تحدث مع السيد في الباطن!".
لم أكن أدري كيف أتحدث على هذا المستوى؛خاصة أنني مازلت مبتدئا، وإن كنت أنتقد هذا الأسلوب في مثل هذه المناسبة المباشرة وأعتبر أن الإحالة على الباطن مع ضرورة الأخذ بالظاهر وتوفر دواعيه قد يكون تضييعا لفرصة التعبير وربط الاتصال المباشر مع الشيخ !
إلا أنه لم ينس ندائي رغم مرور وقت ليس بالهين على صدوره،ومن ثم فقد أذن لي بذكر بعض الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وبالتحديد الصلاة الشافية.
هذا اللقاء كان من جهة يمثل لدي صحوة كبرى في درب تحريك الروح،لأنني رأيت العارف بالله وتحقق أملي بالاتصال المباشر برجل عليه هيئة الولاية والصلاح المشع نحو الخارج والمنبعث من أعماق الداخل والمؤثر في المحيط جذبا وتحريكا عنيفا إيجابيا يضاد العنف السلبي الذي سبق واشتكيت من آثاره!.
فلقد بدا لي حينئذ على شكل شمس العرفان المنيرة والمحيية للأرض الموات والموقظة للقلوب من بعد السبات!.
من جهة أخرى كنت أشعر وكأنني في حلم جميل أمر به سرعان ما انتهى! لكنه حلم ترك آثاره في الواقع والتواصل من بعيد وقطع مراحل ليست بالوهم ولا بالسراب الضائع...!
انتهت الزيارة وعدنا إلى حال سبيلنا بأجسادنا،لكن أرواحنا بقيت على اتصال دائم، لغاية أن صورة الشيخ وهمته وظله لم تستطع مخيلتي أن تضبطه بالكامل أو تستعرض شخصه بوضوح تام،وإنما بقيت في جوانبها شظايا من تلك الصورة الجميلة والهيئة الرفيعة التي كان وما يزال عليها المظهر الحسي للشيخ رغم كبر سنه واقتحامه الثمانين من عمره أطاله الله تعالى.
فكانت سعة المخيلة حينئذ إما أن تتذكر العمامة أو جانبا من الوجه أو اللحية وغير ذلك من قسمات الوجه،أما تأليف الوجه بالكامل فهذا مما يصعب تخيله.
هذه ظاهرة فريدة من نوعها تطبع شخصيته،قد يدركها الكثير من الفقراء أو المريدين ذوقا، بل حتى من لم يأخذوا الورد عن الشيخ سيدي حمزة ولهم فيه محبة أو تعظيم ما !.