المحطة الثانية
نداء الطريقة في إيقاظ الشوق إلى الحقيقة
أولا : الظرفية الدقيقة ويوم الولادة بالطريقة
قبيل التحاقي بالطريقة-كما سبق وقلت- كنت أعيش وضعية متقلبة بين الالتزام الديني و الإهمال للشعائر،حتى إنني كنت أؤجل الصلوات الخمس إلى وقت غير محدد.
كما أتذكر أنني في فترة لجأت إلى تسجيل ما فاتني من صلاة في كراسة صغيرة! فأضع العلامة على اليوم الذي صليت فيه والذي لم أصله.
فكانت هذه الحالة تبدو مضحكة لشكلها المسرحي وتشبيهها بكُرّاسة البقّال في تزميمها الدين على زبناء الحي،ومبكية لأنها تعبر عن قلق دفين في نفس هذا المراهق الذي: من جهة يخاف الله تعالى ويحاول أن يبقى معتصما بحبله الذي يصله به ،ومن جهة يعاني من انفلات وعوارض ذاتية وبيئية ساهمت في اضطرابه وتخلخل موازين توجهه دون أن يشعر به أو يساعده أحد!.
في هذه الفترة؛وعند هذه الحالة بالذات، كنت أذهب إلى المدينة للتجوال في غالب الأحيان،وحينما أقول: المدينة،أعني: مركزها،حيث توجد مرافقها الإدارية والثقافية والتجارية والترفيهية كما هو حال المدن المغربية عموما والعريقة منها خصوصا.
إذ مدينة تطوان قد حافظت كسائر المدن المغربية العتيقة على هذا التقليد،بحيث مهما توسعت دائرتها فالناس يبقون على وفاء بالتوجه إلى مراكزها .
فكان من الطرق الرئيسية التي أجتازها للعودة إلى بيتنا أنني لابد وأن أمر عبر أبواب وأسوار تاريخية أولها: باب الرواح وآخرها باب العقلة،وعلى مقربة من باب الرواح -بعد اجتيازه- يوجد هناك مباشرة شارع يسمى بالطرافين المؤدي إلى سوق الحوت والغرسة الكبيرة والسويقة.
في حين كانت هناك عند مفترق الطرق المؤدية إلى هذه الأحياء توجد زاوية البقاليين؛لم يسبق لي أن دخلتها من قبل،إلا أنني كنت أمر بها وأسمع بين الحين والآخر وخاصة بعد صلاة المغرب أناسا يذكرون الله تعالى،كان من أهم تلك الأذكار التي شدت انتباهي إليها ذكر الهوية أي "هو هو".
مع هذا لم أتجرأ لأقتحم الزاوية للاستطلاع،لكنني أذكر ذات يوم كنت مارا بقربها،مع صديق لي به علاقة جوار و دراسة وكان من أهل وجدة جاء مع أسرته للسكن بتطوان، إذا بي أسمع هذا الذكر يخفق في أجواء الممر،فقلت لصديقي هذا ما معناه:"اسمع الناس يذكرون الله تعالى ونحن نعيش في غفلة وتيه سلوكي وبطالة..."
للتو وبتدخل فضولي ومفاجئ! أجابني شخص لا أعرفه ولا أتذكر شخصه:"أهؤلاء يذكرون الله؟إن شيخهم يضرب بالبندير ويتوضأ بالحليب ..."مع أشياء أخرى تافهة وسخيفة لا يصدقها عقل ولا واقع !!!.
أذكر أنني في تلك اللحظة لم أنبس بكلمة واحدة ولم أجب أو أعقب على ما قاله ذلك الشخص (الشيطان في سلوكه أو واقعه)والذي اختفى من أمامي في الحين!!!.
فلقد كان فيما يبدو ذا قصد خبيث في صرفي وصدي عن طريق الحق بتلفيق الأكاذيب والبهتان والزور على الأولياء والصالحين من هذه الأمة!
تماما كما يفعل الكثير ممن يزعمون أنهم يحاربون البدع ويدعون أنهم يلتزمون الكتاب والسنة بينما أخلاقهم وسلوكهم على عكس دعواهم،بل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
هذه الوسوسة الإنسُ- شيطانية لم يقبلها باطني تصديقا ولم يجزها عقلي تحقيقا،فلم يكن جوابي سوى قولي :"الله أعلم"ثم واصلت طريقي إلى منزلنا.
غير أن النزول إلى المدينة سيتكرر والتجوال فيها سيصبح عادة،لكن هذه المرة مع صديق لي وأخ في الله تعالى،كانت تربطني به قبل الطريق صداقة في القسم والحي وكان شاهد عيان على حالتي الظاهرية والسلوكية في الثانوية.
كما كان يشاطرني عدة سلوكات ومواقف وتوترات في فترة الدراسة إلا أنه كان أهدأ مني فيما يبدو،ومع ذلك كان بيننا توافق وتقارب اكتمل بأخوتنا في الله وولادتنا في هذه الطريقة المباركة وعلى يد شيخها سيدي حمزة،في يوم واحد وبسبب وباعث واحد...!
إنه أخي سيدي مفضل حمدون الذي كنت أترافق معه في الثانوية وخارجها حتى يسر الله تعالى لكي نترافق ونسلك معا هذه الطريقة،راجين من الله تعالى فيها الثبات والرضا إلى أن نلقاه :"وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".
ففي يوم ليس كالأيام وعلى غير موعد أو التزام كنت أنا وصديقي سيدي مفضل نجوب أحد شوارع مدينة تطوان،من غير مقصد أو هدف سوى استهلاك للوقت وملء عبثي للفراغ بما هو أفرغ منه، إذا بنا نلتقي أحد أفراد عائلته،وهو ابن عمته سيدي مصطفى المصدق،شاب وسيم ونحيل ومتواضع ومؤدب.
في البداية لم أكن أعرفه شخصيا رغم صلتي بابن خاله المفضل،كما أنني لم أعره اهتماما لما التقى بنا وشرع في محادثة ابن خاله على شكل تهامس وحول أشياء متنوعة.
فجأة! وبينما هما يتحدثان صدرت منه كلمة واحدة كانت الوميض الذي أثار انتباهي وجرني مجبرا للاشتراك في الحديث معهما على شكل تطفل ألا وهي كلمة :"إننا سنذهب إلى بركان !!!".
بدون تردد وبفضول ملحوظ سألت المصدق فيما أتذكر: لماذا ستذهب إلى بركان؟عنده أجابني بأننا: سنزور شيخنا!
من ثم؛تدرج بنا الحديث عن الزاوية الموجودة بحي الطرافين وعن الشيخ وأحواله،وذلك أنني كنت،كما قلت آنفا،قد سمعت من والدي بوجود شيخ من أولياء الله تعالى في مدينة بركان...
بعد ذلك استرسلت في إلقاء الأسئلة حول النتائج التي يتحصلون عليها من خلال صحبة هذا الشيخ ومستوى الأذواق والأحوال والمشاعر الوجدانية وما إلى ذلك.
فكان يجيبني عن كل ما أريد معرفته عنهم بكل عفوية وسذاجة وبشكل بسيط وعامي يميل كليا إلى الفطرية وسلامة النية...
كما أن أجوبته كانت تطابق ما قرأته عن الصوفية و مواجيدهم وأحوالهم!
شعرت في هذه اللحظة كأنني وضعت يدي على ضالتي الثمينة،والتي كان يصفها الصوفية قديما:بالكبريت الأحمر،طالما حلمت به من خلال مطالعتي للكتب الصوفية.
خاصة وأن واقعي النفسي والروحي في تلك الفترة كان في أمس الحاجة إلى تحصيل هذا الدعم الحي لتطلعاتي العرفانية،وسعيي إلى تهدئة روعتي وقلقي الذي سبب لي اضطرابا وأرقا كاد أن يصبح مزمنا وبقي مؤثرا على أعصابي ودماغي لفترات طويلة في حياتي!!!
بعد ذلك سألته عن الأوقات التي يحضرون فيها الزاوية،فأجابني بأنها:مياومة،بين المغرب والعشاء ،ثم افترقنا على وعد مني بأن نلتقي في اليوم الموالي بها إن أمكن...
هكذا عدت إلى بيتنا؛يدغدغني اطمئنان منشود وبشارة محققة،كما شرعت في تهيئة نفسي وقلبي وبدني لهذا الدخول الأبدي إلى طريقة أولياء الله تعالى،بعدما اغتسلت ورتبت أوقات صلواتي وتوجهت إلى الزاوية في اليوم ما بعد الموالي من لقائنا.
أظنه كان الخميس فيما أتذكر!وهو اليوم الذي يستحب فيه السفر،ولكن أي سفر هذا؟ !
إنه السفر الأبدي ورحلة الروح من منطلق الوجود والجود إلى حضرة الملك الأحد المعبود!!!