ثانيا : التغير المأمول والرهان المقبول
أقبل الشاب المراهق على الزاوية وهو يحذوه أمل بأن يجد ما توقعه صحيحا من خلال محادثته لرفيقيه السابقين،كما أنه دخل إليها وباطنه مملوء بالتعظيم لهذه الطريقة وأهلها؛رغم أنه لم يكن يعرف اسمها لحد تلك اللحظة،لأنه لم يكن يهتم بالألقاب والشعارات الفارغة المحتوى والمغررة في كثير من الأحيان بإيقاعاتها الموسيقية وترادفاتها اللفظية.
إذ المهم عنده هو أنه سيتعرف على أناس مرتبطين برجل ولي صالح له اتصال رفيع ومسلك دقيق في تعامله مع الله تعالى له،وله إرادة وقدرة على انتشال الغرقى من فكي الهلاك والضياع...
فلقد كان هذا هو محور الطلب عندي، لأن القاعدة المنطقية تقول بأن "الحبل الواصل إذا امتد من المتصل فالممسك به ضرورة متصل! "
كأول إجراء طبقته للشروع في هذا المشروع اللامتناهي الأعمال والآمال كان هو مد اليد لتحقيق ما يصطلح عليه في الطريقة : بالمصافحة.
وهي تتم على شكل تشابك ومعاهدة يدوية يتلو خلالها المصافح على عرى المصافحة سورا وآيات قرآنية حددها الشيخ و ينوب عنه المقدمون ومن أذن لهم من الفقراء لإجرائها،ثم بعد ذلك يقبل المصافح يد المريد الجديد بالتبادل وتختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه سلم في صورة جماعية،كما قد تتلوها تهاني ومباركات من طرف الإخوان...
عندئذ أخذت ورد الطريقة بلهف وشوق لا نظير له،مع نية الالتزام به حرفيا وبشكل منضبط ومكثف.
فقد كان يتضمن آنذاك قراءة سورة الفاتحة وآية :"وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم "،ثم الاستغفار مائة(100)مرة،وذكر اللطيف ستمائة وخمسة وأربعين مرة (645)،وأخيرا الصلاة على النبي مائة مرة( 100)،هذا في الصباح.
أما في المساء فكان الورد نفسه باستثناء ذكر اللطيف،إضافة إلى قراءة حزبين في اليوم صباحا ومساء.
كل هذا مع ذكر الهيللة :"لا إله إلا الله" بصورة مكثفة وغير محدودة العدد،قد تصل في بعض الأحيان إلى عشرات الآلاف كمطلب مبدئي وبحسب الرغبة والاستعداد والاستمداد .
هذه الأذكار لم أجد حرجا في كثافتها وكثرتها،وإنما أقبلت عليها كالظمآن الذي لا يزيده ماء البحر إلا عطشا ولا يشرق بالماء الزلال كيفما كانت صدمته.
فعلا وحقيقة مجربة!إنه بحر هذا الذي حصلت عليه في الطريقة،ولكنه ليس بالمالح ولا بالغاص المنغص،وإنما هو عذب زلال لا يبلغ المرتوي منه نهمته ولا يسكت به عطشه!!!
إذ بقدر ما كان المرء ذاكرا لله تعالى بقدر ما ازداد استلذاذه له وطلبا لالتزامه،بحيث لم يعد يكفيه ليل ولا نهار لاحتوائه أو استهلاك حصته وإشباع نهمه منه!.
هكذا بدأ الالتزام وأقبلت بالكلية على الله تعالى لا شغل لي غيره كما عبر بذلك الغزالي حينما التزم طريق الصوفية،إذ توافق التعبير هنا قد يندرج في وحدة الطريق الصوفي وسلامة المسلك الذي يسلكونه.
من ثم تحرك باطني للتعرف على هذا الشيخ شخصيا ومجالسته على أرض الواقع،وتحقيق المواجهة الشبحية التي ستكشف صدق تلك المشاعر من بعيد أو كذبها.
كذلك فالمقابلة المنشودة ستحقق موضوعيا ما نسجه الخيال عبر الصور الفوتوغرافية،أذكر من بينها صورة جميلة جدا ومثيرة للروح أيما إثارة،فيها يرفع الشيخ يديه الكريمتين إلى السماء متضرعا إلى الله تعالى بالدعاء والذكر.
فكنت أنظر إلى تلك الصورة وأكرر،وكلما رددت النظر تجدد لدي شعور بالشوق إلى لقاء هذا الشيخ المبارك الذي حرك باطني من بعيد وجذبني إليه جذب المغنطيس للحديد!
لكن أي انجذاب هذا، وحيد وفريد؟إنه جذب لاحتضان الروح وتذويبها في محبة الله تعالى ورسوله الكريم، وإنقاذ من التيه والغرق المحدق والمقلق!.
إلى جانب أخذ الورد فقد كانت وما زالت تطبق في الطريقة ما يسمى : الوظيفة،وهي عبارة عن ذكر جماعي بالجهر مُياومة وخاصة مابين العشائين كما سبق وأشرت.
بحيث أن هذا الذكر كان يعتبر الرابطة الأساسية بين المريدين الملتزمين لتقوية جانبهم الروحي وتواصلهم،إضافة إلى أنه قد يمثل ميزانا وعلامة على مدى التزام المريدين بالأذكار الفردية طول يومهم وخاصة ذكر الهيْللة،لأنه بحسب مستوى الشحنة المتراكمة في باطن المريد من هذا الذكر فقد تظهر على أحواله عند حضوره بشكل خشوع وحركات وصعقات وما إلى ذلك .
هذه الوظيفة كانت مؤلفة من قراءة سورة الفاتحة وذكر اللطيف والهيللة والحسْبلة –"حسبنا الله ونعم الوكيل"والاسم الأعظم "الله الله" وذكر"هُوَ هُوْ" ثم سورة الواقعة والختم بدعوات وصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم ،يضاف إلى هذا درس ديني تربوي وتوجيهي في أغلب الأحيان،مع قصائد ومدائح نبوية مشوقة ومحركة للوجد والتواجد...
غير أن الذكر الأكثر إثارة ضمن هذه القائمة كان هو:"هو هو"،بحيث كان ومازال يثير اعتراض المعترضين وخصوم الطريقة بغير علم أو حتى من الذين ينتمون إليها ويتعاطفون معها ظاهريا.
حتى إن من يريد أن يستفز أو يسخر من المريدين وشيخهم ينعتهم بأتباع أو أصحاب "هو هو".
في حين أن من السفهاء من يتبع النعت بنعوت مختلفة تفصح عن جهلهم وعدم وعيهم بالأحكام الشرعية من جهة، وعن غبائهم وغفلتهم عن إدراك موقع الهوية من السياق الذي جاءت فيه ترتيبا وانتهاء.
بحيث أن هذا الذكر في الوظيفة يمثل قمة المسار ومنتهى الأذكار التي تحرك الروح والجسد معا،وترتفع معها الأصوات بصورة تدريجية وجهورية وبشكل اندماجي مع الألفاظ وإيقاعاتها واسترسالها المستعذبة، والتي تعطي في النهاية نوعا من الاطمئنان واستلذاذا للأذكار السابقة واستئنافا للأذكار اللاحقة !
إضافة إلى استناده على أدلة شرعية ولغوية تبين جوازه وقيمته بين الأذكار،لغاية أن اعتبره بعض العلماء بأنه:الاسم الأعظم كما هو مطروح في الحاوي للفتاوى عند جلال الدين السيوطي ،أو اعتباره ذكر الخواص فيما ذهب إليه الغزالي في الإحياء وفخر الدين الرازي في التفسير الكبير،سبق وعرضنا لبعض خصوصياته في كتابنا"البعد التوحيدي في الإسلام:الوسيلة والغاية".
فالهوية في الوظيفة جاءت بعد ذكر الاسم الأعظم "الله الله"ومن ثم يعود الضمير على هذا الاسم سياقا وقصدا ولغة بالضرورة والتأكيد،أما ما يثيره بعض الجهلة من أن المقصود في "هو هو"العود على الشيخ فهذا هراء وجهل ما بعده من جهل، وأقبح من الجهل :الجهل بالجهل.
كما أن الذين ينكرون الذكر بالهوية أصلا باعتبار أن الذكر لا يكون إلا في جملة تامة فيما ذهب إليه ابن تيمية فهذا مردود عليه أيضا بالسياق الوارد فيه ذكر الهوية في الوظيفة لأنه مرتبط بالاسم السابق "الله الله"مع الاسترسال في التأكيد عليه بالهوية باعتبارها خبرا لمبتدأ سابق وهكذا...
في بداية التزامي بالوظيفة كنت أحاول أن أغمض عيني عله يحصل لدي خشوع وأتوصل إلى الحال الذي لاحظت طروه على الإخوان عند مزاولتهم للأذكار.
من هنا فقد كنت أبقى في حالة عادية إلى حين الوصول إلى ذكر الهوية،الذي كما قلت له تأثير قوي بإيقاعاته من جهة فيكون التحرك ذاتيا -أي كما يعبر عنه الصوفية بالتواجد-وهذا شيء طبيعي وعادي،ومن جهة قد يحدث استجلاب الحال بشكل جماعي فتعم غلبته على الأفراد حتى يصير وجدا حقيقيا يقينيا صادقا؛ يغيب فيه المريد عن إرادته وملاحظة محيطه ولا يبقى له استلذاذ وشعور إلا بالذكر ومضمونه والعائد على ضميره.
بحيث أن هذا الذكر يصفي الذهن من كل شتات وسرحان سواء في الألفاظ أو المعاني، كانت مجردة أو ذات طابع حسي،لأنه كما يعرف عند الصوفية اصطلاحا بذكر الذات الذي تنمحي معه كل الصفات،ومن ثم فلا يبقى للمريد حينئذ إلى غيره أي التفات...
من هنا أخذت الرحلة مسارها الجدي وأصبحت الطريقة هي الولع والمنشغل و بدأت تتخلص مني ظاهرة التقلبات والملل المستحكم في نفسي.
بحيث سيصبح حضوري للزاوية مياومة في كثير من الأحيان،أحضر في الصباح ووسط النهار والمساء،بل قد يطول بي المقام إلى وقت متأخر من الليل لا هم لي ولا شغل إلا مزاولة الأذكار وخاصة ذكر الهيللة الذي أصبح عندي عبارة عن ضرورة وولع لساني يسترسل مع الأنفاس :
ولا تلتفت في السير غيرا فكل ما سوى
الله غير فاتخذ ذكره حصنا
وكل مقام لا تقم فيه فإنه حجاب
فجد السير واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي
عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب
فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى
لا لأني أنساك أكثر ذكرك
ولكن بذاك يجري لساني
حتى إنني كنت في بعض الأحيان أجلس للذكر ابتداء من صلاة المغرب إلى مطلع الفجر ثم أذهب إلى الثانوية للدراسة فيغلبني النوم داخل القسم،إذ في تلك الفترة لم يعد الدرس بالنسبة إلي ذا أهمية تذكر.
خاصة وأنني قد التحقت بالطريقة في فترة متأخرة من السنة الدراسية بعدما كنت قد رسبت في الاختبارات الفصلية مع تكرار السنة ولم يعد لدي أمل للمتابعة،لأن الرسوب الثاني كان يعني الطرد من الثانوية .
فلئن كان دخولي إلى الطريقة قد حرك لدي الرغبة للاستدراك؛إلا أن الوقت كان متأخرا ولم يعد لدي أمل في المواصلة،هذا مع أنني كنت مازلت متأثرا بحالتي السابقة والمتميزة بالعنف واللامبالاة والثورة على الأساتذة والأصدقاء...
لكنني مع ذلك قد بدأت أعرف تحولات نوعية في الحركة والاندماج مع المحيط الطلابي،وذلك لغاية دعوة أصدقائي للالتحاق بالطريقة والحضور إلى الزاوية لمزاولة الأذكار.
بحيث أن هذه الرغبة كانت قوية لدي أكثر من أي هدف آخر،والإلحاح كان عليها شديدا.
فكم من صديق استطعت إقناعه والمجيء به إلى الزاوية :منهم من التزم بالورد ومنهم من حضر ثم غاب وهكذا،كما أنني بدأت أدعو أهل حينا الذي أقطنه منهم من استجاب ومنهم من اعترض وسخر وخاصة حينما يسمعون بذكر "هوهو".
بحيث أن الذي كان يريد أن يستهزئ أو يسخر أو يضحك معي كمداعبة يكرر أمامي ذكر:"هو هو" فيكون ردي بحسب علاقتي بالشخص الذي أحادثه:مرة بالضحك ومقابلة السخرية بمثلها والنكتة بأختها (خاصة وأنني صاحب نكتة ومستملحة كما يقول البعض عني،وصاحب انقباض متواصل كما يسقطه علي آخرون)،في حين يكون الرد بالعنف وكيل الشتائم لمن يستحقها أو ممن لم يكن لدي معه تواصل لحد مثل هذا التطاول،ومع هذا فلم أنثن عن عزمي ولم يفت في عضدي كل هذه المواقف المتناقضة والمستفزة في غالب الأحيان !
عندئذ بدأت أناقش والِدي :سيدي محمد بن أحمد بنيعيش- خريج دار الحديث الحسنية- حول موضوع التصوف،الذي كان يبدو غير مسلم بالطرق الصوفية التقليدية،كما كان ناقدا لها في بعض الأحيان بعنف،رغم ما كان يعرف عن التصوف ورجاله ثقافة كما سبق وأشرت في البداية.
فكنت أحاجه بالأدلة التي كانت تبدو لي مقنعة،ومن ثم ألجأ إلى الاستعانة ببعض الكتب من مكتبته لإثبات صحة أقوالي،فكان يتجاوب معي أحيانا وفي بعض الأحيان لا يأبه بآرائي،بل قد يؤدي به الحال إلى تحذيري من الطرق الصوفية والزوايا.
فقد كان موقفه مزاجيا في الغالب و بحسب ما رسخ في كثير من أذهان المثقفين والمتعاطين للسياسة من أن أصحاب الزوايا أو الطرقيين كانوا موالين للاستعمار وأنهم عبارة عن متقمصين ومستغلين لسذاجة العوام وحسن نواياهم العقدية...إلخ.
بحيث أن والدي كان من بين السياسيين الذين تقلبوا بين الأحزاب أشكالا وألوانا وانطبع أسلوبه بنزعة ثورية تأثرت بها إلى حد ما،فمرة في حزب الشورى والاستقلال كأحد مؤسسيه ومرة في حزب الاستقلال وأخرى في الإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان فيه رائدا وحركيا بمدينة تطوان، لغاية أنه أصبح مسؤولا وإطارا هاما،كما كانت له اجتماعات ولقاءات مع زعماء تلك الأحزاب وتناول كتابتهم،كمؤلفات عبد الله إبراهيم الذي كنت أقرأ بعض كتبه السياسية الناذرة من خلال مكتبة والدي :"أوراق من ساحة النضال".
في حين قد انخرط في أحزاب مستحدثة كالتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية فيما أظن وغيرها.
فقد كان لا يرسو على مركب في باب السياسة والانخراط الحزبي،وهذا من مظاهر الملل وعدم الثقة في جدوى كثير من الاتجاهات والتحزبات التي كانت تتناسل على غير قاعدة سياسية ولا اجتماعية وفكرية،وخاصة في السبعينات .
رغم صغر سني فقد كنت أتفاعل مع توجهات والدي الفكرية والسياسية،مع أنه كان عنيفا معي في كثير من الأحيان من حيث الظاهر، لكنه كان رحيما وحنونا حينما يعود إلى هدوئه ومراجعة نفسه!.
بحيث سيتجلى هذا العنف في أعلى مستوياته وذروته لما التحقت بالطريقة وجئت ذات ليلة متأخرا إلى المنزل بعد سهري في ذكر الله تعالى، فكان الاستقبال مما لا أحسد عليه...!!!
لم تكن هذه الحادثة لتؤثر على علاقتي بوالدي أو أخفي عنه أسراري في طريقتي؛كما أنها لم تؤثر على حماسي في التزامها،بل استمررت في ذكري وواصلت حضوري بالزاوية إلى أن جاءت فترة هيأ فيها بعض الإخوان زيارة للشيخ سيدي حمزة الذي كان موجودا حينها بمدينة الدار البيضاء.
أتذكر أن والدي كان قد أمدني ببعض الدراهم مقابل تكلفة السفر هاته مع بعض الإخوان الذين كان يتقدمهم سيدي أحمد بن داود،الذي كان ذا حركية ونشاط في نشر الطريقة بمدينة تطوان ونواحيها !
كما سيتضح أنه من كان قد قص على والدي حكايته مع الشيخ سيدي حمزة حينما كانا يلتقيان بأحد المقاهي القريبة من منزله،وأنه كيف نقله روحيا من وضع المريض الشارد إلى عالم الورد واسترسال الموارد!!!.