هذه المرحلة في حد ذاتها تعتبر من أهم المراحل المؤسسة لمبدأ الأستاذية وضرورة الموجه للانتشال من أوحال الوساوس العقدية والعقد النفسية بشتى أنواعها .
لأن الطفل إذا لم تراع نفسيته في مرحلة تمييزه وما بعدها عند مراهقته وقع في فخ الاضطرابات والحيرة بصورتين هما:
إما أن يؤدي به إلى الانحراف العقدي والسلوكي معا.
وإما أن يقع فريسة الانطوائية والتوجس من الآخر؛بل من نفسه أيضا،فيبدو حينئذ منعزلا متفاديا لأية مواجهة أو ظهور خوفا على نفسه من أن يتعرض لهزات أخرى.
هذه الحالة قد تضاف إلى ما يعانيه مما توقف عنده من أفكار مستعصية و تمركزات ذهنية ثقيلة لا يستطيع زحزحتها بنفسه.
فكيف يقاوم هذا، و فكره أو عقله ما زال غضا خديجا أو برعما منغلقا على نفسه لم يتم دورته للإقلاع و الاستكشاف المتزن؟! .
إن هذه المرحلة قد عاشها كاتب هذه السطور بأشكالها المتعددة،مع أنه نشأ في بيئة إسلامية وعائلة ملتزمة بالإسلام كما يلتزم الناس.
فوالدي سيدي محمد بن سيدي أحمد بن يعيش قد كان معلما في أول الأمر من مهنته،ثم تدرج إلى أن أصبح أستاذا يدرس الأدب؛مع أنه كان مستظهرا لكتاب الله تعالى ومطلعا على المتون التقليدية، في حين كان شديد الحفظ كما يروي عن نفسه ويحكي عنه بعض قرابته في البادية.!
لهذا فقد كانت مكتبة والدي رغم بساطتها تتضمن كتب الأدب والفلسفات ومعها بعض كتب الفقه والشرعيات....
أما والدتي السيدة الفاضلة فطومة بنت سيدي محمد الكنياري فكانت امرأة أمية،ولم تتعلم الكتابة إلا مؤخرا من خلال برنامج محو الأمية الذي أصبح يلقن في المساجد،إلا أنها كانت محافظة على صلواتها؛متشبثة بدينها لها في والدي أسوة و مرجعية في تعلم بعض الأحكام الشرعية ،بالسؤال تارة وبالإنصات العابر تارة أخرى ولكن ليس على مستوى متواصل ومعمق... كما أن كلا من والدي ووالدتي لهما قرابة يتجاذبها العلم والأمية والحضارة والبداوة كما هو شأن سائر العائلات المغربية عموما،إلا أن كلا العائلتين كان لهما تعلق بالصالحين وتصديقات بالأولياء واحترام الأضرحة وساكنيها أو دفينيها...في حين سيلتقي نسبهما إلى مولاي إدريس بن إدريس بن عبد الله رضي الله عنه.
أذكر من بين أفراد العائلة من ذوي هذا الاهتمام بشكل متعهد ومنتظم جدي- أب والدي -سيدي أحمد بن حسين بن يعيش رحمه الله تعالى،الذي كان قائد المائتين مع المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله تعالى في مرحلة المقاومة الأولى للاستعمار الإسباني خصوصا.
إذ كما يحكى عنه أنه كان شجاعا جدا ومقداما بل قوي البنية الجسدية يضرب به المثل،قد أدركته في شيخوخته وهو يناهز التسعين سنة ولا يرضى أن يمسكه أحد من يده ليقوده في الطريق رغم أنه ضعيف البصر ومتقدم في السن كما بينا.
في حين قد كان يأوي المجاهدين في بيته الذي كان منعزلا عن القرية التي كان يسكن فيها ؛وهي مدشر بورد بقبيلة بني زيات(من قبائل غمارة بشمال المغرب).
كما كان قد أوشى به البعض عند المستعمر لاتهامه بإخفاء السلاح في بيته، الشيء الذي أدى إلى إصدار حكم بالإعدام في حقه من طرف الاستعمار كما يحكى،مما جعله يبقى هاربا ومختفيا بين المناطق الجبلية الوعرة إلى فترة غير محددة.
من جهة أخرى كانت له اتصالات بالمقاوم الاستقلالي السيد عبد الخالق الطريس-رحمه الله تعالى-فيما سمعته منه شخصيا أو حكى لي والدي عن طبيعة هذه العلاقة،التي كانت وطنية محضة ولم تكن حزبية أو فئوية ضيقة...
جدي هذا،كان من خصاله الكرم والعفة وإطعام الطعام للمجاهدين وغيرهم؛إلا أن ما أدركته منه ورأيته بعيني هو تعظيمه للزوايا وأهلها وتقلده لسبحة كبيرة كانت تلازمه في بيته أو قد يعلقها على عنقه وربما استصحبها في سفره،كما أنه كان لا تفوته صلاة الفجر رغم كبر سنه،وكان مما قص علي قبيل وفاته أنه رأى رؤيا منامية بشر فيها بأنه من أهل الفردوس !.
هذا التعظيم للزوايا وأهلها يتجلى لديه عمليا في أنه حينما كان يستخلص محاصيله الزراعية- رغم قلتها- يخصص حصة معينة من القمح أو الشعير يرسلها إلى أقرب زاوية إلى مد شره أو قبيلته .
أذكر أني مرة شهدت على حمل هذه الحصة من الزاد على البغال في رفقة عمي السعيد بن يعيش رحمه الله تعالى؛الذي استشهد في ساحة الكرامة على رمال الصحراء المغربية في كلتة زمور بعد تلك المعركة المشهورة التي جرت هناك .
فكان بذلك مجسدا لشهامة أسلافه،كما هو الشأن بالنسبة لجدي موضوع الحديث وكذلك أخيه سيدي الأمين الذي استشهد بدوره في ساحة الشرف عند مقاومة المستعمر الاسباني منذ وقت مبكر،وذلك دون التطلع للحصول على بطاقات أو شهادات لإثبات صدق مقاومتهم أو الحصول على امتيازات وهمية على حساب الوطن والواجب!
هذا العطاء كان موجها حينذاك إلى زاوية مشهورة بقبيلة بني بارون،وهي قريبة من ربع بني هليل أحد بطون قبيلة بني زيات التي كان يسكن فيها جدي، وهي مسماة على اسم شيخ الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش فيما يقال .
هذه القبيلة مقصد العطاء هي بني بارون؛ التي كانت تتمركز فيها الزاوية الوزانية، يتزعمها حينئذ شيخ تبركي يسمى بسيدي إبراهيم.
بحيث كانت تمثل مرجعية روحية متميزة في المنطقة وتقام فيها المواسم،ولها تقاليد عريقة في الضيافة وما إلى ذلك من العوائد التي تقبلها سكان تلك المنطقة بالاستحسان والتعظيم .