الشهوات من حيث هي من نتائج الغفلة باعتبار أقسامها، فنتائج غفلة المحجوبين عن الله الوقوع في شهوات المعاصي، ولو حصلت للمفرط أدنى مراقبة لما وقع به ما وقع. فالمراقبة تمنع وجود المخالفة . فما نبت بذر الشهوات إلا في قلب غافل ولا يخرج الشهوات من القلب إلا وجود المراقبة أو المشاهدة، أو تقول خوف مزعج، أو شوق مقلق، أي ناسخ لها وإن فرغ القلب مما ذكرنا فلا محالة تنبته الرذائل وترتحل الأسرار والفضائل. وعلامة فراغ القلب من الأنس بالله وجود الشهوات، وهي مرض عضال يحتاج للمداواة.
وحاصل الأمر، أن وجود الغفلة أساس كل بلية، فمن استحكمت فيه قلت سلامته وقد تستحكم في العارف نفسه وتسرقه شيئا فشيئا وهو لا يشعر، إلى أن يعود إلى القطيعة والعياذ بالله، ولهذا كانت الغفلة عندهم تعد من أكبر المعاصي لأنها منشؤها، وما قرب للشيء يعطي حكمه، فهذه غفلة المحجوبين عن الله .
وأما غفلة العارفين فهي كناية عن الطوارىء البشرية الملازمة لهم ولا بد من طروها عليهم بأن يعطوها مستحقها. وحالة اشتغالهم بما ذكرنا تعد لهم غفلة وذلك من رحمة الله بهم، إذ لو لم يكن نوع من التغفل لتعطلت أسباب العارفين لقوة مشاهدتهم وفيضان الحقائق عليهم . قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : (قوي علي الشهود مرة فسألتُ الله أن يستره عني فقيل لي لو سألته بما سأله إبراهيم خليله وموسى كليمه ومحمد حبيبه ما فعل، ولكن اسأله أن يقويك عليه فسألته فقواني). فلهذا قلنا أن التغفل الطارئ على العارفين من نعم الله عليهم ما لم يتماد حتى يكون بمعنى الذهول.
ولهذا تراهم يتعوذون من وجود الغفلة كما يتعوذ الغير من وجود الحجاب، وإن كان ابتداؤها محمودا، لكونها تعتري العارف أولاً على وجه مقبول، ويعبرون عن هذا المقام بشهود الحق في الخلق، وهو من أشرف المقامات، إلا أن ابتداء التغفل لا ينشأ إلا بوجوده، وقد تشتد أنواع الغفلة في قلب العارف فتصير تسرق فيه شيئا فشيئا، وإن لم يكن واقفا على باب قلبه تأخده من حيث لا يشعر.
ولهذا كانت عندهم مذمومة ولو مع وجود فائدتها، وتتضح لك المعنى بما يروى عنه عليه الصلاة والسلام حيث قال : (إنه ليُغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة)؛ وإياك يا أخي أن تفهم الغين هو بمعنى الرانن فحاشاه من ذلك عليه الصلاة والسلام. قلت:
فنزه قلبه عن كل وصف يباعده عن حضرة الله
فإن ذلك من باب "حسنة الأبرار سيئة المقربين" والأحوال تترادف من الحق عز وجل على أنبيائه وأوليائه، وكل كمال إلا وعند الله ما أكمل منه. قال عليه الصلاة والسلام :(لي وقت لا يسعني فيه غير ربي) فهذا الوقت هو غير الوقت الأول.
ثم اعلم أن الغفلة لا تعمل في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما تعمله في غيرهم، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، وذلك لوجود العصمة، بخلاف الأولياء، فلهذا يتعوذون منها أشد التعوذ، لأنها تنوب عن الحجاب في بعض الأوقات حتى كانت عندهم من أشد المحرمات.
وقد يُكنُّونها رضي الله عنهم بالطائف البشري إذا استولى على الروحانية. قال أستاذنا سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) هو الطائف البشري يخرج العارف من الحضور وهو الجمع إلى الغفلة وهو شهود الفرق، وفيه معنى النسيان المأخوذ من قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ). وقد يتحكم ذلك الطائف البشري على العارف حتى يأخده فإذا دام يصير عائقا وغفلة عليه ويعبرون عنها بسدل الحجاب، مع أن الحجاب عندهم معدوم ومع ذلك ينتقل من الشعور إلى التغفل ومن العيان إلى الذهول، وإذا لم يتداركه الله بلطفه رجع لشهواته البهيمية والطباع البشرية واشتغل بما يضره وهذه الحالة من أعظم المصائب على المريد، فإن رجع لله فالغالب يأخذ الله بيده. وحاصل الأمر أن الغفلة هي سجن المؤمن، وقد جرت مسألة بين أصدقائنا في قوله عليه الصلاة والسلام (الدنيا سجن المؤمن، والقبر حصنه، والجنة مأواه، وأن الدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه).
فقلتُ : هذا بيان الفئتين من أهل اليمين وأهل الشمال، فهاتوا ما عندكم من المقربين. قال أحدهم : إن القريب من الله وهو العارف الغفلة سجنه، والمعرفة حصنه، والمشاهدة مأواه، فوقع هذا الجواب عندي موقعه وعلى هذا لا يوجد عند العارفين ما يكدر عيشهم إلا الغفلة إذا استحكمت عليهم.