والحاصلُ : أنَّ المريدَ ما دام محجوباً على شهودِ نفسهِ. وهو يجاهد في حضور قلبه مع ربِّه؛ فهو في حضرة القلوب، وإذا افتتح عليه، غاب بشهود ربِّه عن شهود نفسِه. أو تقول : غابَ بجمعه في فَرقه؛ فهو في حضرةِ الأرواح. وإذا تمكّن ورجعَ إلى البقاء بحيث لا يحجُبُه جمعُه عن فرقِه، ولاَ فرقِه عن جَمعِه؛ فهو في حضرةِ الأسرار، وحكمةُ ذلك، انّ الروحَ ما دامتْ منهمكة في الغفلةِ سُمِّيَتْ نَفْساً. ولم تدخل الحضرة قط. فإذا تيقَّظتْ أو استقامتْ، وجعلتْ تُجاهدُ نفسها في الحُضورِ، سُمِّيتْ قلباً، لتقلُّبها من الغَفلة إلى الحضرة، ومن الحضرة إلى الغفلة، أو لتقلُّبها من الطاعة إلى المعصية، ومن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصلت إلى مقام الإحسانِ، وفُتحَ عليها في مقامِ العرفانِ، سُمِّيَتْ رُوحاً، لراحتها من تَعَبِ الحجاب، ودخولِها معَ الأحبابِ ، وإذا تأدّبَت وتهذَّبتْ وجُليت عن بصيرتها، من غَبَشِ الحسِّ، سُمِّيَتْ سِرًّا لخَفائها عن مدارك العقول، أو لخفاءِ صاحبِها عن فَهْمِ الناسِ. إذْ لا يَعرفُ حقيقة الوليّ، إلاّ مولاه الكبير العليّ أو من دخل معهُ في الولايَةِ، فأُضيفَتْ الحَضرة إلى الرُّوح، معَ اختلاف تَسميَتها، باختلاف تطوّرها وترقّيها. فقيل حضرَة القُلوب ما دامَتْ قلباً، ثمَّ حضرَة الأرواح، ما دامتْ رُوحاً، ثمّ حضرة الأسرار، ما دامَت سِرًّا. ولمّا كان الحَمْلُ إلى الحضرةِ لا يكمُلُ إلاّ إذا صحبَتْهُ النُّصْرَةُ، سأل ذلكَ الشيخُ فقال : (حَملاً مَحْفُوفاً بِنُصْرَتِكَ) أي : يكون ذلك الحملُ مُدَوَّراً بنُصرَتِكَ. أي : حُفَّتْ من كل جانبٍ، ولا شَكَّ أنَّ العَبدَ إذا صحبَتهُ النُّصرةُ والمعرفة في سَيرِهِ، بلغَ القصد والمأمُولَ، ورَتَعَ في أقرب ساعةٍ في حضرةِ الوصول. ولله دَرُّ القائل :
إذا كانَ عونُ اللهِ للمَرءِ قاصِراً تَيسَّرَ لهُ من كلِّ عَوْنٍ مُرادُهُ
وإنْ لمْ يكُن عونٌ من اللهِ للفتى فأكثرُ ما يجْنِي علَيهِ اجتهادُهُ