ثُمَّ ذكرَ ثمرة الوصول؛ وهيَ الغَيْبَةُ عنِ السِّوَى، فقال :(وَاقْدِفْ) : أي ارْمِ (بي عَلى البَاطِلِ)؛ وهو ما سوى الحق تعالى. وفي الحديث : {أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعرُ، كَلمة لَبيدِ:
ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ وكلُّ نعيمٍ لا مَحالة َ زائِلُ
شبَّه السِّوى الذي هو الباطل، بحيوانٍ له دماغٌ، فإذا أُصيبَ دماغُهُ ماتَ. ولذلك قال : (فَأَدْمَغُهُ) أي : فأصيب دماغَهُ. فيَتشَتَّتُ ويضمَحِلُّ. وإذا زهقَ الباطلُ جاءَ الحقُّ.{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقً}. {فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}. ولا شكَّ أنَّ ما سِوى الله تعالى مفقود عندَ المحققين. أبَى المحققون أن يشهَدوا معَ الله غَيْرُه. إِذْ مُحَالٌ أنْ تَشْهَدَهُ وَتَشْهَدَ معهُ غَيْرُهُ. ما حجبَكَ عنِ الحقِّ وجود موجودٍ معَهُ. وكَذا الغَيْرُ عندَنا مَمْنوعُ. مُذ تَجَمَّعْتُ ما خَشيتُ افتِراقاً، فأنا اليَوْمَ واصِلٌ مَجْموعُ. وإذا ذهبَ عن القلبِ شُهود السِّوى، غرقَ في بحارِ الوحدة. ولذلكَ قال : (وَزُجَّ بِي) أي : أدْخِلْنِي. (في بِحارِ الأَحَدِيَّة)، فالزَّجُّ في اللغة : هو الإدخالُ، قال الشاعر :
أنْحَلَني الحُبُّ فلو زُجَّ بي في مُقْلَةِ النَّائمِ لم يَنتبِهْ
كان لي فيمَا مضى خَتْمٌ والآنَ لو شئتُ، تَمنطقتُ بهْ
والأحدية مبالغة في الوحدة، أي : أدخلني في بِحارِ أحدية ذاتكَ وصفاتكَ وأفعالكَ، ولذلك عَبَّرَ بالجَمعِ، إذ كلّ بحرٍ مستقلٌّ بنفسهِ، فمن غرقَ في بحرِ توحيد الذّات، غاب عن نفسهِ وعن شهود السِّوى، وبقي بوجودِ ربِّهِ، ومن غرقَ في بحرِ توحيدِ الصِّفات، غاب عن صفة نفسه، وصفة غيره، وبقي بصفات ربِّه. ومن غرق في بحر وحدة الأفعال غاب عن فعله وفعل غيره، وخرجَ من تدبيره واختيارهِ. إذْ لا يدبّر الإنسان ما يَفعَل غيرَهُ. وإنَّما عَبّرَ بالأحدية التي هي أبلغ من الوحدانية؛ لأنَّ المراد هنا من التوحيد، ما كان ذوقاً وحالاً ومقاماً، لا ما كانَ علماً واعتقاداً، إذْ ذلكَ من شأنِ أهل الحجابِ : أهل الدَّليل والبُرْهانِ. وفي هذا المقام، قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه :
يَا قارِئينْ عِلْم التَّوْحيدْ هُنا البُحُورْ إلي تِغْبِي
هذَا مقامُ أهل التَّجريدْ الواقِفينْ مَعَ رَبِّي
إذْ لا يخوض هذه البُحورَ، إلاّ أهل التَّجريد والحُضور. وأما من تنشَّبَ ظاهره بكثرة الأسبابِ، فلا يطمع أن يُفتحَ لهُ هذه الأبواب. وقد سمعتُ شيخَنَا البُوزَيْدي رضي الله عنه يقولُ : معرفة المتسبِّب، لا تَقْرُبُ من معرفَةِ المتجَرِّد. وقال أيضاً : المتجرِّد النَّاقصُ أفضل من المتسبِّب الكامل يعني المتهذِّب. إذِ المتسبِّب لا يخْلو باطنُهُ من تَكدير. وسمعتُ شيخنا مولاي العربي الدَّرقاوي رضي الله عنه يقول : فكرة المتجرِّد، أمْنَعُ من فكْرَة المتَسبِّب. أي : أصفى وأبْلَغُ؛ لأنَّها ناشئة عن الصَّفاءِ، إذ صَفاءُ الباطنِ، من صفاءِ الظَّاهرِ، وتكديرُ الباطن، من تكديرِ الظَّاهر.