عنوان المخطوطة : الذخيرة لأهل البصيرة
المؤلف : القرافي محمد بنعلي
تاريخ النسخ : 832 ه
بسم الله الرحمن الرحيم، الله الموفق.
قال محمَّدُ بن عليّ العِراقيّ غفر الله له ذنوبَهُ ووفّقه لِما يُرضيهِ : الحمد لله المتوحّد بالعظمة والكبرياء، المتفرِّدُ بالمجد والبهاء، المختصّ بالدوام والبقاء، والحسنى من الصفات والأسماء، الذي لم ينته عِلمُ مخلوق إلى نهاية كماله، ولا بلغَ أحدٌ إلى معرفة حقيقة صمديّته وجلاله، والإقرار بالعجز عن معرفته منتهى معرفة النبيّين والصدّيقين والاعتراف بالقُصور عن القيام بواجب حمده والثناء عليه غايةُ عجز الملائكة المقرّبين، ظلَّت عقولُ العقلاء متحيِّرة ما بين أشعّة أنوار جلاله، وظلَّت أدِلَّةُ السالكين والمريدين في بادية الدَّهَشِ تجيء بقُرب حضرة جماله، فسبحان مَن قطعَ الرجاء عن معرفته تَعطيلٌ، ودعوى كمال معرفته خيال من الخيال غايتهُ التّشبيه والتّمثيل، كُلّ موجود فهو من آثار قدرته، وفائضٌ من أنوار عظمتهِ، وما من حادثٍ إلاّ وهو من بدائع غرائب حكمته خلق، وجمال حضرته فالكل منه وبه بل الكلّ مقدورا.
فليس لأحد وحقيقة إلّا له، فتباركَ مَنْ وُجودُ الموجودات بنُور وُجوده، وجلَّ مَن تَحَقُّقُ المحدثات بفائض فضله وجوده، والصلاة على رسوله المصطفى من سائر خليقته، المكرّم برسالته الموضِّحِ لشريعتهِ، الدّاعي إلى معرفته وطاعته، والسلام على آله وصحابته وأزواجه وعِثرته.
أما بعد : فإنّك حَضرتَني أيُّها الأخ الوادّ أحضَرَ الله مَسَارّك ورَوّح بلَطيف الأُنس به أسراركَ، وذكرتَ لي أنّك تصفَّحتَ كتُبَ العلماء السّابقين وتصانيف القدماء المُبرِّزين فلم تر في كتبهم وتصانيفهم أنفع من تصانيف الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي قدس الله روحه ونوّر ضريحه ،إذ كان أكثرَهم تَدقيقاً وتحقيقًا وأبعدَهُم من المَيْل والهوى طريقاً، مع تبحُّرِه في أجناس العلوم الشرعية وغيرها، وتصنيفه في كلّ فنٍّ من فنونها ورُسوخِ قَدَمِهِ في دقيقِها وحليِّها، وتحكُّمه فيها بإجمالها وتفصيلها ...إلا من شيئين وشَّحَ به كتبه وتصنيفه، فلا يكاد يخلى من أحدهما ، تأليفه الأول غموضُ معانيه وغرائب ألفاظه ومبانيه. والثاني أنه متى صح له تحقيق في كتاب أعرضَ عن إتمامهِ وأحال على بعض كتبه بالجواب، فما لم يحصُل مصنّفاتُه جميعها لشخص لا يكاد يَقضي من كتبه وطرُه ولا يحصُل إلّا من جملتها ما دام مقصوده، وتمنّيتَ لو عثرتَ من علماء الوقت على من يتصدى لتصنيف كتاب يحذو فيه حذوه، ويتلو في استنباط غرائب المعاني، لكنّه لا يُحيل بالجواب على غيره من كتاب، بل يشير إليه ولو بنبذة، ليكون تنحته للقشر من اللباب فيجتمع حينئذ على التحقيق بين حسن الاستنباط وجودة التّلفيق، وليتجنب بجهده التطويل والاكثار كيلا يكون واضعًا بناؤُه على شفيرٍ هارٍ.
فقلتُ اعلم أنّ هذا المَطْلَب أغرَبُ من عَنْقاءٍ مُغْرِبٍ، فإنّه فنّ لا يَسمُو إليه بطَرفِ همَّتِه ويترامى إلى ...معرفته إلا من طرَّزَ علومه برياضته ثم امتطى صهوتها بعلمه، وحلّى محفوظاته بمجاهدةٍ لم يقصر شَجوَتَها، وذلك نادر الوجود وأعزُّ مِن الأبلَقِ العَقُوقِ، وأبلغ في العدم من بيض الأنوق، كيف ومن يتصدّى لاقتفاء طريقته لا يمكنه أن يسري ذلك المسرى إلاّ بدلالته ولو كان الشافعي، أو مالكٌ في علمه وبراعته، والجنيدُ والبسطاميُّ في زهده ومعرفته، فإياك والطّمع في المستحيل فتكون كطالب الإجابة من الربع المحيل.
فلما استَتَمَمْتُ الكلام فُوِّقتُ إلى سِهام الملامة وقلتُ بلسان الاستعطاف والتآلف مُنتزِعًا ملابس الخلاف والتّخلّق بالعين الصحيحة، فالمريضة لا تُساوي شيئا. أنّي أقيّمكم بالمَحاسن لا أقيّمكم بالمساوئ. إيّاك أيها الأخ عَنَيتُ ولأجل ذلك من زاويتي تعنّيت فلا تردَّني خائبَ الأملَ، من بابك محقّقًا من جنابك، فطالَما لَقيناكَ عن الحقّ نضّاحًا، ولِنَوى الهُموم مِرضاحًا، قد حتّمتَ على نفسك مع وجوده الأعذار، وإسعاف طلبة العلم بمطلوبهم من غير اعتماد إلى اعتذارٍ، وليس همّك إلاّ تصنيف كتابٍ وإتيانٍ بما يُستَملحُ ويُستطابُ فما كل قد وفقتني من وراء حجابٍ فلا تعَرّض عِرضك للملامِ، وأغنني عن إطالة الكلام . فلمّا سمعتُ مقالتكَ بادرتُ إلى تسئية نجاحك بقدر الإمكان، وبرزتُ في هذا المضمار الذّي لم يجر بعد لأحد من البلغاء فيه قلمٌ ولا لسان، مع أني معترف للإمام حجّة الإسلام بالعجز عن شقِّ غُبارِهِ، وأنّي لا أستطيعُ مع جودة الجريِ إدراك شأوِ عنّان، وما مثلي وإيّاه رحمه الله إلاّ كمن تشاطرَ فأجَّل الآنيَّ الأبيَّ، بثمارهِ وبادى فكاثرَ مالِكَ الأقاليم نَقضًا لا نَزادِ. هيهات أنّى تقعُ قَطَرٌ من ذلك البحر الخِضَمِّ وكيف يكون حُصانٌ بالإضافة إلى الطُّور الأشَمِّ، إنَّ ذِراعي لَيَقصُرُ عَنْ ... وباعي لا يكادُ يُلَحَّقُ بقيدِ شبرٍ، فلو لاحظني السّعد وساعدني الجدّ لأقلتني أيّها الأخُ العارف عن الجري في هذا المضمار الذي ... ورضيتَ مني بما صنَّفتُه أصولا وفروعا وفقهًا وتصوُّفًا وأدبًا وأمثالاً وحكمًا وحسابًا ورسائلًا إلى غير ذلك.
فإن لهذا الفنّ الذي تبغيه قوم اختصّهم الله سبحانه بصفاء السّريرة، وثُقوب البصيرة، وضياء الحقّ، وذكاء الحَدَسِ، وفيض العقل، ونور النظر، وغزارة الفضل، وتوقُّد الخاطِرِ، وصدقِ المُختَبر، وبُعدِ مَطرح الفكرِ ودون حِياره، هذه الرُّتَب السّامقة مواقفُ يقصر عنها الخُطا ومَجَاهلُ يضلّ فيها القَطَا (اسم طير)، ومن أين لي إلمامٌ بهذا الطّرف واغتِنامٌ لمثل هذه الطرق مع فجاجة الطّبع، وبلادة الذهن، وكُلُول الفهم، وقُصُور التصرُّف، وتشَعُّتِ (انتشار) الأمرِ، وتشَعُّبِ الفكرِ، وازوِرارِ الطُّرُقِ، وانتقاضِ العُلَقِ، والاعتياضِ عن النّمير النُّقاخِ (بالإجِصّ) الطّرِقِ، والتواء المقاصدِ، واشتباهِ المراشدِ، (وجفقة) الأخصِّ، ومُراوغة ذي القرابة الأمسّ، ولكن إذا كنتَ قد جعلتَ هذا الأمرَ ضربةً لازب مع إنّ مَحلّي منه مناطُ القَعب من الراكب، فلْيَعذُرِ مَن وقفَ على كتابي هذا إن وجدَ في ألفاظهِ نُزولًا عن رُتبةِ التَّشدُّق، وألقَى في معانيه انحرافًا يسيرًا عن التعمُّق فذلك مقصود من ألّفتُ الكتابَ برَسمه، وإن كان دون رُتبة من أبرزتُهَ باسمه، فإذا لم يُصنّف على النّاظر فيه ملابسَ حمدِه واستحسانه، فلا أقلّ أن يكفَّ عنِّي غَرِبَ ذَمِّه وعُدوانهِ، فإني جمعتُ العلوم التي فرَّ منها الإمام أبو حامد رضي الله عنه في تصانيفه الكثيرة وحصرتُها في أربعة أصول، وذكرتُ لُبابَها في عدّة فصولٍ، كلُّ فصلٍ منه ينزِعُ إلى نوعٍ من العلوم، ويشير إلى طريق من العمل، وسمّيتُ الكتاب "بالدَّخيرة لأهل البصيرة"، وأوردتُ كلّ أصلٍ في بابٍ : فالأوّل في معرفة النفس، والثاني في معرفة الحق سبحانه، والثالث في معرفة الدّنيا، والرابع في معرفة الآخرة، ومن لاحظ تصانيفَه بعين الانصاف وطالعَها ببصر البصيرة، ألقاها لا تَشُدُّ عن هذه الأصول الأربعة، إذ هي فروعُها وعليها يدورُ مُفَرَّقُها ومجموعُها ووَجهُ اندماجِها من تحتِها وائرِراجُهَا في تحتِها.