ولمّا فرغ من الكلام عن الذات وما يستحق لها من الصفات السلبية، شرع في بيان صفات المعاني التي بها قامت المباني وصلحت الأواني لحمل المعاني وتزخرفت بوجودها الأكوان ونادى لسان حالها الأمان الأمان، فقد ظهر القرآن والسبع المثاني وبسط الرداء على ظاهر المعاني وتحجب الواحد باسمه الثاني ولشدّة ظهور هذه الصفات التي ذكرها احتجب عن العيان.
فقال رضي الله عنه :
وَقُدْرَةٌ إِرَادَةٌ عِلْمٌ حَيَاةْ سَمْعٌ كَلاَمٌ بَصَرٌ ذِي وَاجِبَاتْ
هذه الصفات هي حجاب عن الذات فمن شدّة الظهور ترادفت الستور، فالقدرة حجاب القادر والإرادة حجاب المريد والعلم حجاب العالم والحياة حجاب الحي والسمع حجاب السامع والبصر حجاب البصير والكلام حجاب المتكلم.
وحاصل الأمر أن صفات المعاني حجاب عن المعنوية، فمن وقف مع الأفعال احتجب عن شهود الصفات، ومن وقف مع شهود الصفات احتجب عن شهود الذات، ومن عرف الذات لم يرَ سواها في سائر الذوات ويقول ما احتجبت الذات إلا بالذات، وكذلك الصفات احتجبت عن الأبصار كما احتجبت الذات، فالقدرة احتجبت بالمظاهر، والإرادة احتجبت بالخواطر، والكلام احتجب بتنوع دلالته مع الحروف والأصوات، والحياة احتجبت بعدم مفارقتها للذات، والسمع والبصر احتجبا من شدّة ظهورهما في المكونات، والعلم احتجب لشدّة إحاطته وشموله بالمعلومات.
ثمّ اعلم أنّ هذه الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، لكلّ قسم منها عالم يخصّه : فالسمع والبصر والكلام عالمهم عالم الناسوت، والقدرة والإرادة والعلم عالمها الملكوت، والحياة عالمها عالم الجبروت، وكلّهم لا ينفصلون عن الذات لإحاطتها وتنزيهها عن الجهات. ثم إن تعلق الصفات بالمكونات على مصطلح أهل الله هو كناية عن ظهورها بنفسها لأن الوجود منحصر فى الصفات انحصار الحصير فى الحلفة، فهكذا الموجودات منحصرة في الصفات ولا عكس، وعليه لو فتشت ما في الوجود لن تجد زائداً على وحدانية الإله في الذات والصفات والأفعال والفعل والفاعل كالشيء الواحد قبل بروزه وبعد بروزه لا يظهر بنفسه إلا إذا أظهره وظهر فيه لأن الأشياء من ذواتها العدم فافهم.
ولمّا أنهى الكلام على ما يجب في حق الله، وليس المراد منه حصر الواجبات لأن صفات الحق سبحانه وتعالى لا تتناهى ولا تنحصر، وإنما المراد منه التسهيل على البشر، شرع في بيان ما يستحيل في حقه ويجب في حق ما سواه.
فقال رحمه الله:
ويستحيلُ ضدُّ هذه الصفاتْ العدمُ الحدوثُ ذا للــحَادثاتْ.
كذا الفنَا والافتِقارُ عُــــدَّه وأن يُمــاثَـلَ ونَــفْيُ الوَحْــدَهْ.
عَجزٌ كراهةٌ وجَهلٌ ومَمــاتْ وصَمَمٌ وَبَكـَمٌ عَــمًى صُمَاتْ.
أخبر هنا أن كل ما يستحيل في حق الله فهو واجب في حق العبد والعبد عند القوم هو العالم من عرشه إلى فرشه، أي كل ما تنفس من كلمة كن فهو غير، والغير يجب في حقِّه كل ما ذكره في هذا البيت، وهو قوله العدم الحدوث ذا للحادثات، فينبغي لك يا أخي أن تحقق وصفك وتنظر بعين قلبك لابتداء وجودك حالة بروزه من العدم، فإذا تحقّقت وصفك يمدك بأوصافه، فمن أوصافك العدم المحض، فهذا وصفك ووصف العالم بأسره، فإذا أقررت بعدمك يمدّك بوجوده، وإن نسبته لنفسك فقد بارزته بنعمه، وكيف تنسبه لنفسك وبرهان عدمك في نظرك وهو حدوثك، فقد تعلم من نفسك أنك كنت بالأمس معدوماً {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} فمن أين لك بهذا الوجود ومن أشهدك للمشهود وأبرزك للشهود، فأنت لم تزل معدوماً والوجود لموجوده، لقد قدره وظهر فيه ولولا ظهوره في المظاهر ما وقعت عليها البصائر، وذلك لقول بعضهم :
هو موجودُ الأشيا وعينُ وجودها ولولا جودُه ما بان وجودُها
ومن أوصافك أيضاً الفناء، فأنت يا أخي فانٍ من قبل أن تفنى، ومتلاشٍ من قبل أن تتلاشى، وزائل من قبل أن تزول، فأنت وهم في وهم وعدم في عدم، فمتى وجدت حتى تفنى فما أنت إلاّ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} فلو فتشت نفسك لم تجدها شيئاً وتجد الله عندها، أي تجده بدل أن تجد نفسك ولم يبق منك إلا الاسم بلا رسم لكون الوجود من حيث هو لله لا لنفسك، فإذا صرتَ تحقق فيما هنالك وتأخد ما هو لله بحيث تجرد نفسك عمّا ليس لها، فإنك تجدها كحبة البصل كلها قشور لأنك إذا أردت أن تقشرها فتأخذ القشرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة حتى لم يبق من البصلة شيء فهذا هو مثال العبد مع وجود الحق.