ويُحكى عن أبي جبل يعلى الفاسى المدفون في باب الكيسة رضي الله عنه : إنه مرَّ في مجاهدته للمشرق، وسار علي جبل درن حتى نزل قبالة الإسكندرية، ففرغ ما كان معه من الزاد، وضلَّ في تلك الصحراء، وإذا برجلٍ مُصفرِ اللون قد ناوله رغيفين، وغاب عنه في أقل من طرفة عين.
فلما دخل جامع مصر؛ وجد فيه أبا الفضل الجوهري وهو يتكلم على الناس، فناداه: ادن يا أبا جبل! وهو أول من ناداه بأبي جبل، فدنا منه فإذا هو رجل مصفر الوجه قد قام عنه، فقال له الجوهري: أتعرف هذا ؟ قال له: لا. قال له: هو الذى ناولك الرغيفين في الصحراء، ثم إنه رجع إلى فاس في حكاية غريبة أضربنا عنها إختصارًا، ثم رجع إلى المشرق أيضًا فلما وصل مصر ودخل جامع عمرو بن العاص وأبو الفضل الجوهري يتكلم على الناس فلما رآه ناداه: تعالى يا أبا جبل ! فلما دنا منه اعتنقه وأجلسه بإزائه، فرأى رجلاً قد سدَّ باب المسجد طوله وعرضه، ودنا من أبي الفضل وساره في أذنه وانصرف.
فقال له أبو الفضل : أرأيته ؟ قال له أبو جبل: نعم. ولم يره أحد من الحاضرين في المسجد غيرهما. قال له: ذلك الخضر. وقد قال لي: أقرأه السلام مني، وبَشِّره أنه قد لَحق بالأبدال، وذلك على رأس أربعين سنة من توجّهه وإقباله على الله عزّ وجلّ.
وقال أبو جبل: فلما بشرني اشتقت الرجوع إلى فاس وإلى أهلي، فاستأذنته في الرجوع إلى الوطن، فأمرنى بإقامة أيام ثم قال لي: خُذْ هذه الدراهم لتتزود بها.
فقلت: ألهذا حبستني ؟ ما ضيّعنى قط قبل هذا اليوم أفيضيعنى اليوم! فأبيت من قبولها.
وفي هذا المعنى أنشدوا:
سَافِر لتكتسب في الأسفار فائدة فَرُبّ فائـدةٍ تلقى مَـع السفـر
ولا تُقِم بمكانٍ لا تُصيبُ بـِـهِ دَيْنًا وَلَو كُنْتَ بَيْنَ الظل والزهرِ
فَإنّ مُوسى كَلِيـمُ الله أَعْـوَزَهُ عِلْمٌ تَكسبه في لقيـه الْخِضْـر
وكرامات أبي الفضل لا تنحصر، وآياته لا تنضبط.
وأما أبو عبد الله بشر والد أبي الفضل وعنه أخذ في هذا الشأن وعلى يديه تخرج، وإن كان له عدة شيوخ؛ فله ينتسب إلا أنه كان ذا خمول. قال صاحب النبذة النفيسة ذلك وأثنى عليه غاية ذلك.
ومازال علي سني الحال حتى لقي الله تعالى وقد ارتحل إلى بغداد فلقي الأعلام به، وكانوا متوافرين فاعتمد أبا الحسين النوري؛ فأخذ عنه هذا الشأن, ورجع إلى مصر وبها تُوفي والله أعلم.
وقد ألبسه أبو الحسين الخرقة وغيرهما مما هو عندهم في هذه الطريق.
وأما أبو الحسين النوري واسمه: أحمد بن محمد، ويقال: محمد بن محمد وأحمد أصح,كذا قال حجة الإسلام وهو ببغداد المولد والمنشأ خراساني يعرف بابن البقوري وكان من أجلّة المشايخ من نظراء إمام الطائفة الجنيد.
وكان الجنيد يقول : منذ مات النوري ما بقي مَنْ يخبر عن حقيقة الصدق. وكان من أعلم القوم بمعالم الطريق، فلم يكن أعلم منه بعد الجنيد ولا أحسن طريقةً منه ولا ألطف كلامًا، صحب السرى وعليه اعتمد والإمام القصاب أبا عبد الله محمد بن علي.
ورأى أحمد بن أبي الحواري. مات ببغداد عام خمس وتسعين ومائتين .
وكان يقول: التصوف ترك كل حظ للنفس. وقال: أعز الأشياء في زماننا هذا شيئان: عالم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقته.