وقال رضي الله عنه : كانت المرقعات غطاءً على الدر، فصارت مثل الجياف على المزابل. فقلت : يريد أنها كانت في الزمان الأول كان لا يلبسها إلا ذووا الهمم العالية مثل الدر؛ بل أفضل وأحسن، فلما صارت شباكًا للدنيا، وهمم أهلها خسيسة؛ فهى مصيدةٌ للدنيا التى هى بمنـزلة المزابل عند الصديقين. ولما صار الناس الذين يلبسونها بمنـزلة الموتى من ضعف الحال والخسة كأنهم موتىذ؛ فلذلك عبّر عنها بـالمزبلة، وعلى مَنْ يلبسها بالجيفة وإلا فهى من زى القوم وعمادهم ولما فيها من الفوائد كما قال أبو العباس السرقسطي الفاسي في أرجوزته رحمه الله:
والقَومُ مَا اختارُوا المرقعات إلا لأوصـافٍ وسوف تأتي
أَولُهَا فِيهَا انْطِرَاحُ الكبــر وَمنعها للغُـرِّ ثُـمّ الْحــرِّ
وخفّـة المـؤن ثُـم فيهـا قِلّــة طمعِ الطامعين فِيها
وَذلّـة النفس وتطويل العمر والصبر ثم الاقتـداء بعمرِ
ألا ترى لابسها كَالخـاشـعِ فهى إذًا أقـرب للتواضـعِ
وقال أبو محمد المرتعش : سمعت أبا الحسين أحمد بن محمد النوري يوصي أصحابه رضي الله عنهم ويقول : عشرة وأي عشرة احتفظ بهن واعمل عملهن جهدك.
وأول ذلك: مَن رأيته يركن إلى غير أبناء جنسه ويخالطهم فلا تقربن منه.
والثانية : مَن رأيته يركن إلى الرياسة والتعظيم فلا تقربن منه ولا تـرج فلاحه.
والثالثة : مَن رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه على علم الشريعة فلا تقربـن منه.
والرابعة : فقير رجع إلى الدنيا وإن مات جوعًا فلا تقربن منه ولا تقبل رفقته وإن ارتفقك بشيء فإن رفقته تُقسى قلبك أربعين صباحًا.
والخامسة : مَن رأيته مستعينًا بعقله فلا تأمن جهله بكل حال.
والسادسة : مَن رأيته مدعيًّا حالة باطنه لا يدل عليها ظاهر الكتاب والسنة ولا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه في دينه.
والسابعة : مَن رأيته يرضي عن نفسه ويسكن إلى وقته فهو مخدوعٌ فاحذره.
والثامنة : مريد يسمع القصائد ويميل إلى الرقاد فلا ترجُ خيره.
والتاسعة : مريدٌ لا تراه حاضرًا عند السماع فاتهمه، واعلم أنه مُنع بركات ذلك؛ لتشويش سره وتبديد همه.
والعاشرة : مَن رأيته مطمئنًا إلى أصدقائه وإخوانه مدعيًّا لكمال الخلق بذلك، فأشهد له بسخافة عقله ووهن ديانته، وكم له من حكم ومعارف وحقائق مدونة في كتبهم، ويكفي في ذلك ما ذكره أحمد بن الحسين النوري في كتاب «الطبقات» له. والحافظ أبو نعيم الأصبهاني في «حليته», وحجة الإسلام في «مناقب الأبرار» رضي الله عنهم.
وكراماته أكثر من أن تحصى؛ فمن بعضها ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله تعالى قال : حكي أبو جعفر بن الزبير الهاشمي: إن أبا الحسين النوري رضي الله عنه دخل يومًا إلى الماء ليتوضأ؛ بل ليغتسل فجاء لص فأخذ ثيابه فبقي في وسط الماء، فلم يلبث أن جاء اللص ومعه الثياب، فوضعها بين يديه وقد شلت يمينه فقال النوري: يارب قد رد علي ثيأبي رُد عليه يده، وانطلق عنه ومضى.
ويُحكى عنه : إنه خرج يومًا إلى شاطئ دجلة، وأراد أن يقطعها فوجد الجانبين قد التزقا فانصرف وقال : أنا أعلم أنك على كل شيء قدير وعزتك لأجزتها إلا في زَورق !.
وحكي عنه صاحب مناقب الأبرار الأستاذ أبوالقاسم القشيرى رضي الله عنهما أنه قال : كان في نفسى هذه الآيات فأخذت يومًا من الصبيان قصبة، وقمت إلى زورقين وقلت : وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قال: فإذا دجلة رمى لي بها في الحين، سمكة فيها ثلاثة أرطال وإذا بصبي يقول لي : ياعم أشوها لك ؟ فقلت : نعم فشواها فأكلت منها حاجتي. فلما بلغت حكايته هذه إلى الجنيد قال : جزاؤه أن تخرج له أفعى تلدغه.
قلت : وإنما قال إمام الطائفة ذلك؛ لأنه نزل من الحقيقة التى هي مقامه لمقام البسط والإدلال الذي هو محل السقوط إلا من عصمه الله وعُصم من الأكابر؛ لأن التحفّظ فيه صعب؛ كما قال تاج العارفين : ولا يقف على حدود الأدب في البسط إلا قليل.