فإن قيل فما تقولون فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعدُه من النّار).
قيل ك إنما أراد بذلك إذا كان ظنًّا وتخمينًا وحدسًا واجتهادًا خطأ والدليل عليه أنه قال في رواية أخرى : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوَّأ مقعده من النَّار).
ثمّ هو محمولٌ على من قال برأيه فيما طريقُهُ السّماع كالنّزول ومن نزل فيه، فإنّ من أَخذَ يقول في قوله : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}[الأعراف : 175] بأنّه فلان من غير سماعٍ لم يجز له ذلك.
وكذلك لو أنه قال : إنما يخرج الدجال في سنة كذا وينزل عيسى وتقوم الساعة وقت كذا لم يصحّ له ذلك لأنه غير متحقِّق به وكذلك لو فسَّرَ المجملات من الأحكام التي في القرآن برأيه مما لا سبيل للعقل إليه، ويحتاج فيه إلى نصٍّ واردٍ لم يجُز له ذلك بالخبر المحمولِ على ما ذكرنا.
ثم إذا قال في القرآنِ بغير علمٍ كان مستحقًّا للنار، فإذا قال في القرآن بعلمٍ وجب أن يكون مستحقًّا للجنة. وفي بعض الأخبار من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ في فعله بقيله فيه برأيه وإن وافق قيلُه ذلك عين الصواب عند الله. وهو كالعامِّي إذا أفتى في أحكام الشريعة فوافق فتواه الحق يكون آثما ولا ينفذ فتواه لأنه فيه غير مستبصر ولا متحقق فذلك من فسَّر القرآن برأيه فيما طريقه النقل وخبر الصادق ولا سبيل إليه مثل وقت قيام الساعة وغير ذلك لم يقبل منه قوله وكان مستحقًّا للعقوبة.
فإن قيل فما تقولون فيما روي عن الصديق أنه سُئل عن (الأبّ) فقال : أي سماء تظلُّني وأي أرض تُقِلُّني إذا قلتُ في آية من كتاب الله بغير علم، وفي رواية : إذا قلتُ في كتاب الله برأيي.
وكذلك رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال مثل هذا. قيل هو محمول على ما يكون سبيله النقل لأن الأبَّ يُدرَك سمعًا فلذلك لم يقل من قبل نفسه ألا ترى إلى ما رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سُئلَ عن الكلالة فقال : أقولُ فيها برأيي ولا آلو جَهدي.
وهذا ابن عبّاس مع اشتهاره بالتفسير يقول ك لا أدري ما الرَّقيم ولا الغِسلين، وفي رواية: ولا الأوَّاه.
وقيل أنّ أبا بكر سُئل عن المُقيت في قوله : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء : 85] فأجاب بمثل هذا الجواب ومعناه ما ذكرنا
فإت قيل ما تقولون فيما رُوي عن عبيد الله بن عمر أنه قال : (لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظِّمون الأمر في التفسير منهم سالم والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيَّب ونافع). قيل لا نشك أن السلف كانوا يعظمون التفسير وليس فيه أنه لا يجوز تفسيره فإن تفسير كتاب الله سبحانه أمر عظيم ليس بصغير. فإن قيل فما تقولون فيما رُوي عن ابن سيرين أنه قال : سألت عَبِيدة السَّلماني عن آية فقال : (عليك بالسَّداد فقد ذهب الذين علموا فيما أُنزل القرآن).
وما رُوي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن آية من القرآن فقال : لا أقول في القرآن شيئاً.
وروي أن ابن المسيِّب كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، وروي أنه سئل عن تفسير آية فقال : لا تسألني ولكن سل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه، يعني عكرمة.
وما رُوي عن الشِّعبي أنه قال : والله ما من آية إلا وقد سألتُ عنها ولكنها الرواية عن الله. وما رُوي عن يزيد بن أبي يزيد قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم النّاس فإذا سألناهُ في تفسير آية من القرآن سكتَ كأنْ لم يسمع.
قيل هذه الأخبار لا تدلّ على أنَّهم نَهَوْا عن علم التفسير أو أنكروا ذلك وإنما هو تحرّجٌ منهم وأخدٌ بالاحتياط حيثُ رأوا أنّ الأمرَ في ذلك لم يتعيَّن عليهم وعلِموا أنّ في الأمّة من يقوم بذلك فاحتاطوا لأنفسهم مخافةَ أن يقعَ منهم خطأٌ فلم يشرَعُوا فيه، ولم ينكِرُوه على المشتغِلين، والشارعين فيه كسكوت كثيرٍ منهم عن الفتيا، وعن القضاء بين المسلمين لا أنّهم أنكروا ذلك فكيف يجوز إنكاره وعليه مدارُ الدين وبه نظام الشريعة ؟ لكنهم رأوا الاحتياط لأنفسهم أنْ لا يسَّرعوا فيه مخافةَ الخطأ وتعظيما لذلك الأمر، لأنه قد قام بذلك من الأمة من كان فيه الغَنَاءُ والكِفايةُ فلو أنه تعيَّنَ عليهم الفرض فيه لما سكتوا عنه ولما تركوه، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فكتَمَه ألجَمَهُ الله يوم القيامة بلِجامٍ من نارٍ).