الشرط الرابع : قطع العلائق كلّها عن النفس بالزهد في كل شيء، والانفراد عن الخلق بالخلوة في مكان مظلم، أو لف الرأس في الجيب، أو التدثُّر بكساء أو إزار، ثم الصَّمت بترك الكلام جملة، ثم الجوع بمواصلة الصيام، ثم السَّهر بقيام الليل، وهذه هي التي كان المطلوب في مجاهدة الاستقامة اعتدالها حتى يصير استواء الفعل والترك فيها عند القلب جبِلَّة طبيعية، وأما هنا فيطلب تركها بالكليَّة، وإخماد سائر القوى البشرية وإماتتها حتى الفكر، ليكون ميت البدن حي الروح، إذ مطلوب هذه المجاهدة فراغ القلب عن كل ما سوى الله حتى كأنَّ البشريّة كلها ذاهبة ممحوة شأن الميت، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم : (مُوتُوا قبلَ أنْ تَمُوتُوا).
الشرط الخامس : صدق الإرادة، وهو أن يستولي حبُّ الله على قلب المريد حتى يكون في صورة العاشق المُسْتَهْتَر الذي ليس له إلاّ همٌّ واحدٌ.
فإذا حصلت هذه الشروط كلها، فصورة العمل في هذه المجاهدة أن يشغله الشيخ بذكر يلزم قلبه على الدوام، ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، ومن التلاوة، بل يقتصر على الفروض والرواتب، ويكون ورده ملازمة القلب لذلك الذكر، ولا يشغل قلبه بغيره. قال الشبلي للحصري : (إن كان يخطر على قلبك من الجمعة إلى الجمعة شيء غيرُ الله فحرام عليك أن تأتيني).
ثم يُلزمه الشيخ الخَلْوَة، وهي زاوية ينفرد بها عن الخلق، ويوكل به من يقوم له بقدر حلال من القوت، فالحلال أصل طريق الدين، ويعين له ذكراً يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول : الله، الله، الله، الله. أو : لا إله إلّا الله. لا إله إلّا الله. ولا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان ويبقى تخيلها، ثم حتى يسقط أثر تخيلها عن اللسان، وتبقى صورة اللفظ في القلب. ثم حتى تنمحي صورة اللفظ من القلب، ويبقى معناه ملازماً حاضراً قد فرغ من كل ما سواه، وعند ذلك يقع الحذر الشديد من وسوَاس الشيطان وخواطر الدنيا، فيراقبها في اللحظات والأنفاس، ويعرض على شيخه كلّ ما يجد في قلبه من الأحوال من : فترةٍ، أو نشاطٍ، أو كسلٍ، أو صدقٍ في الإرادة، ويكتم ذلك عمَّن سواه، فالشيخ أعلم بغدائه.