آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -14

ثالثا: التحويل من مجرد التقريب إلى التوظيف والتحبيب


هذه النقلة النوعية قد هزت المدينة واستغرب أهلها من حال الأستاذ بن يعيش خريج دار الحديث الحسنية والمناضل الحزبي والخائض في السياسة حتى النخاع: كيف سيصبح متتلمذا على يدي شيخ قد ينعته أعداؤه بالأمية وفقد العلم الظاهري الذي سبق وفندنا دعاواهم ومزاعمهم هذه في كتابنا "الطريقة القادرية البودشيشية:شيخ ومنهج تربية"؟. 
كما أن الجدل كان مازال قائما حول طبيعة مدرسته ومستواها المعرفي ومشربها الروحي فيما يثيره المشاغبون من المعترضين والحاسدين لطريقته المباركة!. 
غير أن همة الشيخ كانت أقوى من كل تصور أو تشويش،وطريقته في الإقناع كانت أعقد من تحليل أي محلل ومتخيل. 

فهو عارف صامت ومحرك حكيم،قد يبرهن ويقنع بأسلوب مباشر وغير مباشر. 

كما أنه قد يستدل بالأدوات الكبرى والوسائل الصغرى على حد سواء؛بغير تكلف ولا تصنع،ومن ثم فقد يستعمل الآلات الصغرى في تحريك الأجرام الكبيرة والعكس صحيح. 
فعلى هذا،لم أكن أنا الذي أقنعت والدي بأسلوبي الذاتي ولا والدي استجاب باختياره الشخصي،وإنما كان المقنع هو الشيخ المأذون من الله تعالى بواسطة لساني بعدما انحلت عقدته، سبق وبينت المستوى الذي كنت قد وصلت إليه من الإحباط وإلغاء الفكر والعلم من حساباتي ومطالبي واهتماماتي المستقبلية. 
في حين أن والدي قد انجذب بالقوة وحكم الروح الذي يأخذ بزمامه الشيخ نفسه فينتقي مريديه ولو كانوا في أقصى بقاع الأرض، كما سبق وتحدثت عن الطالب الإندونيسي. 
إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "الحديث،وهذا المعنى سيفسره أبو يزيد البسطامي بقوله:"مازلت أتعهد مريدي ونحن في عالم الذر!!! " . 

من هنا فلقد كنت الوسيلة الصغرى التي استثمرت في اجتذاب الكتلة الكبرى،أو السمكة الصغيرة التي اصطادت الحوت الكبير،لكن هذه المرة من أجل حياته وسعادته لا من أجل إهلاكه واستئصاله. 
كما أن المسألة هنا دورية،أي :أن والدي ساهم في دعوتي إلى الطريقة بأسلوب غير مباشر وذكر موضوع الشيخ سيدي حمزة أمامي وأنا صغير،ومن ثم كان تعلقي بالموضوع وتتبعه إلى الوصول إليه ومعاودة تذكير والدي بما سبق أن ذكره فيما مضى!!! 
فكنت حينئذ مذكرا لا غير:"وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"صدق الله العظيم. 
هكذا إذن سيصبح والدي سببا لالتحاق العديد من أفراد العائلة وخاصة والدتي وجدتي الحاجة عائشة بن صبيح رحمها الله تعالى وخالتي الحاجة آمنة وزوجها الحاج حسن الإدريسي رحمه الله تعالى وباقي العائلة تقليدا واقتناعا ومجاملة...إلخ. 
بل سيصبح منزلنا لفترات غير هينة بيتا للذكر وإجراء الوظيفة من أجل استقطاب سكان الحي وتقريب مجالس الطريقة إليهم... 
في هذه الفترة سيلاحظ اهتمام خاص يوليه إياي شيخي سيدي حمزة،وذلك لأنني كلما كنت أزوره بين الفينة والأخرى إلا وكان يقدمني أمام زواره من الفقراء وعلى اختلاف مستوياتهم الثقافية والمهنية بقوله:"هذا الذي جاء بأبيه!". 
بحيث قد كانت لهذه الكلمة دلالة لا يعرفها حق معرفتها إلا شيخنا؛لأنه أدرى بنفسية والدي ونفسيتي، كما كان قوله هذا محفزا للإخوان الآخرين كي يحذووا حذوي في هذه الجرأة والحرص،وأن يتفانوا في نشر الطريقة من غير أن تهمهم مكانة الشخص المادية والمعنوية والاجتماعية عند دعوته إلى الطريقة سواء كان أبا أو عالما أو رجل أعمال أو سلطة أو حتى عاطلا مهمشا... 
إذ المهم هو أن نبلغ ولا ننثني أمام الهيئات والمناصب والفئات والألقاب، لأن هذه دعوة ربانية لا فرق فيها بين عربي وعجمي ولا أسود وأبيض ولا شريف وعامي إلا بالتقوى. 
فكان الشيخ حينما يأتي إليه البعض ممن حجبوا بأنسابهم يقول هذه الكلمة المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا أو معنى :"أنا جد كل متقي ولو كان عبدا حبشيا...". 

مضيفا بأن الذي هو عليه من ولاية وسر ومدد ليس مؤسسه النسب بالدرجة الأولى،وإنما هو نتيجة تربية وصحبة وصبر و مصابرة ومرابطة...ثم هي أولا وأخيرا من فضل الله ورحمته التي يختص بها من يشاء من عباده! . 
هذا التخصيص في المجلس والعناية من طرف الشيخ كان بمثابة مؤجج لدي لكي أفرغ كليتي في خدمة الطريقة ونشرها. 
فكنت لا أترك شخصا ألقاه إلا وأحدثه عنها،فقد أذكر من بين هذه الاتصالات أنني حضرت صلاة الجمعة ذات يوم وبعدما استمعت إلى الخطبة وانتهت الصلاة ذهبت إلى الخطيب رغم صغر سني وقلت له في جرأة ما معناه:"إذا كنت فعلا تتحدث عن الأخلاق ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فتعال أدلك على شيخ تجد منه هذا السلوك والمطالب حيا وواقعا ملموسا...!". 
كما أنني كنت أذهب في بعض الأحيان إلى المقاهي وأتواصل مع المدخنين للحشيش وكل ما في حكمه لأنشر فيهم الطريقة وأدعوهم إلى الذكر. 

إذ الغريب أنهم مع سوء حالتهم هاته كنت أجد لديهم احتراما وتقديرا لما أدعوهم إليه،فكان ردهم حينئذ خيرا ممن يبدون ملتزمين للمساجد أو ذوي انتماءات جماعاتية مقنعة في الظاهر بينما ليس لديهم في الباطن-والله أعلم- إلا الفراغ الروحي والسلوكي !!! 
بل إن من أولئك المبتلين أو المنحرفين من كان يبدي استعداده في الحال للتخلي عن تلك القاذورات من المخدرات وغيرها رغم إدمانه عليها ،مع طلب الدعاء بالعفو والمغفرة وأيضا الوعد بالحضور إلى الزاوية في وقت قريب إن شاء الله تعالى!!!. 
فهذه نقطة لابد من الإشارة إليها،وهي أن الطريقة قد أنقذت العديد من الأشخاص كانوا مدمنين حقيقة على شرب الكحول والمخدرات لم يفلح معهم طبيب ولا إرادة أو عزيمة مما يوصف،سواء في الطب النفسي أو الجسدي المحض. 
فكانت هذه من كرامات الطريقة عند مزاولة الذكر أو حتى قبله،أي بمجرد ما كان يتم اللقاء بين المريد والشيخ حتى يندحر الإدمان من ذاته وأخلاقه ويتحول إلى شخص آخر مغاير تماما للذي كان عليه. 
حتى إن بعض المريدين في المهجر والذين لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم عبر عن إقلاعه عن التدخين بسبب الطريقة وبلغة فرنسية :"إنني كنت أدخن على الطاولة "أي أنه كان يأكل ويشرب ودون أن يتخلى عن التدخين عند مائدة الأكل!!!. 
هذه صورة حية من صور الإسلام الفعال الذي كان يحول الصحابة في لحظة وجيزة من عبدة للأحجار وسدنة للنار إلى سادة الأتقياء وخير الأبرار !!! كما حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولغيره من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا... 


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية