آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -15

المحطة الرابعة
إشارات التخصيص في مجال العلم والتمحيص


أولا : ثمرات الاستشارة وأبعاد الإشارة


إلى جانب قول الشيخ :"هذا جاء بأبيه " فقد كان يدعو لي أمام الفقراء وفي حضرة والدي أيضا ب:"اللهم اجعله خيرا من أبيه أو أعلم منه ..."،وكان يكثر من هذا الدعاء لي حتى إنه كان يضيف تعقيبا على دعائه بأن "كل واحد يتمنى أن يكون أحسن من كل الناس إلا الأب فإنه يتمنى أن يكون ولده خيرا منه".. 
بل قد ذهب به الكلام في بعض الأحيان إلى التفرس في صراحة أو ضمنا بأنني سأكون من العلماء !. 
فكان هذا الكلام يثير استغراب الفقراء - مازال بعضهم يتذكره ويصرح به إلى الآن - ويروا في كلام شيخي عني إحدى أهم كرامات الطريقة على مريديها،لأنه لا أحد كان يتصور أنني سأحرق المراحل بهذه السرعة والوتيرة الخاطفة بعدما كنت عاطلا فاشلا ومضطربا ومتهورا،بعيدا كل البعد عن الدراسة وشاردا عنها شرود الجمال من العقال!!!
لكن هيهات هيهات! فالطريقة فاقت كل التوقعات،وشتان بين تدبير النفس والهوى والعمل بالإذن من المولى جل وعلا! 
هذه الإشارة بقي شيخنا الحالي ووارث السر والإذن استحقاقا سيدي جمال بن شيخنا سيدي حمزة يكررها مرارا وعلى الملأ وعند مناسبات وقبل وفاة والده رضي الله عنه وأكرم مثواه،وذلك كتذكير لي ولغيري بفضائل الطريقة علي ورفع لمعنوياتي التي كانت كثيرا ما تهتز وتفتر معها همتي لأسباب موضوعية وذاتية لا يمكن التحكم فيها. 
حتى إنه كان وما يزال يقول للملإ :هذا هو من كرامات الطريقة ـ ثم يسرد بعضا من سيرتي الذاتية وما طرأ عليها بفضل هذه الصحبة الزكية !!! 
إذ الأول يكون محجوبا بنفسه وظلمانيتها فيقع في وهم الأسباب وضرورتها،بينما الثاني يكون متصل الحضور رافعا للحجب فيرى المسبب واحدا في جلاله وجماله ويفهم خطابه بالذوق والحال لا بمجرد التخمين وظاهر المقال... 
لكن الأغرب من هذا هو أنني توجهت فيما بعد كاستدراك لما فاتني من الدراسة نحو ميدان بعيد عن دراسة العلوم الشرعية مضمونا ووظيفة تفصيلية ألا وهو: ميدان التمريض! والذي كان سيؤدي بتوجهي إلى التوغل في التسلسل الطبي الشامل والمتخصص… 

بحيث سيؤثر هذا العمل كثيرا على سلامة سيري في الطريقة وسيمثل بالنسبة إلي انتكاسة روحية وفتورا في العمل بها، لعدة أسباب وعوارض ذاتية واجتماعية ومهنية، كان من سلبياتها أن أعادت تأجيج الوساوس التي كنت أعاني منها قبل التحاقي بالطريقة، كما أثرت على نفسيتي وأعصابي الشيء الكثير. 
فلقد كان حالي من جملة غالبية من مارس ويمارس هذه المهنة التي لا تحترم فيها قواعدها ولا تراعى فيها الحالة النفسية والمادية لممارسيها من طرف المسئولين والجمهور مجتمعين !!! 
إضافة إلى أنني كنت أشعر في قرارة نفسي بأنها،رغم شرفها وخدمتها الجليلة للإنسانية،ليست من طموحي ولا من طبيعتي ومزاجي؛مع أنني كنت مهنيا متفوقا وتقنيا ناجحا في الميدان بكل معنى للكلمة!. 
إنها مسألة لابد من الوقوف عندها قليلا كتحليل وتعليل،وهي أن استشارة الشيخ في الطريقة شيء مهم جدا سواء تعلق الأمر بالجانب الديني أو الدنيوي،إلا أن استئذانه ينبغي أن يكون قبل اتخاذ القرار. 
بمعنى أن يفوض المريد اختياره إلى شيخه عل سبيل التسليم بكل ما سيشير عليه به،لا أن يجعل استشارة شيخه مجرد إنطاقه بما كان قد قرره بنفسه ومال إليه هواه بغير علم أو ضوابط . 

إذ في الحالة الأولى سيكون الشيخ مسؤولا عن إشارته ومتحملا على الأقل أدبيا لنتائجها،أما في الحالة الثانية فالمسؤولية تكون على الشخص الذي اختار ثم أراد تبرير اختياره بإجازة شيخه،ومن ثم فلا يكون اللوم عائدا على الشيخ وإنما يتحمل المستشير مسؤوليته كيفما كانت النتائج!. 
إن استشارتي لشيخي في هذه المسألة قد جاءت أقرب إلى الصنف الثاني،لأنها كانت استئذانا بعد اتخاذ القرار وإذنا بحكم الواقع والاضطرار. 
لأنني حينها كنت عاطلا وكلا على عائلتي، فكان لابد من إيجاد شغل لسد هذه الفجوة التي ربما تهز كياني وتؤثر سلبا على التزامي بالطريقة ومجالسها... 
لكن رغم هذا فقد عرفت في هذه المهنة إيجابيات وسلبيات وتقلبات ومشاكل لا تعد ولا تحصى،كما اطلعت بشكل مباشر على الواقع الاجتماعي بكل تشكلاته وفئاته وصلاحه وفساده، وبالتالي تكون لدي وعي دقيق بتحليل أمراض المجتمع وآفاته ومظاهر الفقر ومستوياته وخطورة الأمراض ودرجاتها... 
في أثناء مزاولتي لهذه المهنة تحركت لدي رغبة للتخلص منها بالعمل على استدراك ما فاتني من دراستي،وبالتالي تحقيق إشارة شيخي ونظرته إلي منذ تتلمذي على يديه. 
فابتدأت أمنّي نفسي الترشح لامتحانات الباكلوريا،حيث سيسمح لي القانون حينذاك به؛لأنني كنت قد قطعت ثلاث سنوات بعد انفصالي عن الدراسة. 
من هنا،فلم أضيع علي من الناحية الزمنية سوى سنة واحدة في استحقاقي الدراسي؛رغم أنني بقيت عاطلا لمدة سنة وولجت التمريض لمدة سنتين من التدريب. 
عند التخرج مباشرة شرعت في تهيئ الامتحان الذي لم أكن أصدق أنني سيسمح لي باجتيازه، فلما جاءتني دعوة بقبول الترشيح في فصل الربيع تيقنت حينها أن المسألة جد وأنه لابد وأن أعقد العزم على تحقيق هذا المطلب!. 
وفعلا سيتحقق وبأعجوبة وسرعة مثيرة،بل قد تحصلت على ميزة مستحسن التي كانت تعتبر من أهم الميزات بالنسبة للأحرار... 
حينذاك بدأ اليقين يزداد بإشارة شيخي علي وانفتحت أمامي الآمال وتعددت لدي الطموحات،وترددت عندي الاختيارات بين أن أسترسل في المجال الصحي وأتابع سيري في سلمه أو ألج الميدان الجامعي الذي لم أكن أحلم به بعد الإحباط الذي أصابني. 
كما قد احترت في اختيار التخصص المناسب لتوجهي هل الأدبي أو القانوني أم الشرعي الإسلامي؟ 
على عجلة وتحفز وبدون تردد أو تذبذب ذهبت إلى استئذان شيخي،ولكن هذه المرة مع التسليم ودون سبق اختيار. 
فلقد كانت إشارته موجزة وبعيدة الآفاق،بحيث رفع رأسه وصوبه نحو اتجاه متصاعد كأنه ينظر إلى فضاء واسع وبعيد فقال لي: "إن الذي أشار عليك أشار على الأصول"أو بلهجته الخاصة التي مازلت أحفظها بالحرف :"اللي شِيَّر(أو شار) عليك شيَّر(شار) على الأصول!"يقصد بذلك في الظاهر كلية أصول الدين بتطوان. 
فكانت هذه الكلمة مؤثرة جدا ومصيرية بالنسبة إلى مستقبلي العلمي والتخصصي، كما أنها قد ناسبت - وهذه نقطة لابد من التنبيه عليها- الاستعداد النفسي لدي لخوض مجالات علم العقيدة أو علم الكلام والتصوف الذي سبق وذكرت أنه نشأ مع طفولتي وتطور عند انتمائي إلى طريقتي . 
في حين أن هذه الكلية وكما هو الشأن في شعب الدراسات الإسلامية في كثير من كليات الآداب بالمغرب،ستحتضن أعتا وأشد المعارضين للتصوف وأهله. 
لكن ومع ذلك فستكون ميدانا لاستعراض الفكر الصوفي بكل قوة تنافسية سواء على مستوى التحصيل العلمي والمناقشة كطالب ومتابع لمناهج الدراسة بالكلية أو على مستوى التلقين العلمي الموضوعي والتدريس فيما بعد كأستاذ وباحث متخصص. 
إذ سيكون هذا الحضور المكثف لموضوع التصوف ،رغم معارضة الكثيرين له بكلية أصول الدين خاصة وبباقي المؤسسات العلمية الأخرى ذات التخصص في العلوم الشرعية،فارضا نفسه ضرورة بحكم ارتباط مادة التصوف بشتى العلوم الشرعية ولو على المستوى الفقهي الذي قد تبدو بعيدة عن مجالاته لكنه في الحقيقة مرتبط به ارتباطا عضويا لا يمكنه الانفصال عنه بتاتا، 
هذا النزوع نحو التلازم بين التصوف وباقي العلوم الشرعية بل حتى الإنسانية الموضوعية سيكون مكرسا له وحافزا إلى ترسيخه تلك المقولة المنسوبة إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى:"من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق"،وأيضا تلك المقدمة المنضدة لعبد الواحد بن عاشر: 

في عقد الأشعري وفقه مالك     وفي طريقة الجنيد السالك 

لكنه مع الأسف سنجد هذا التلازم قد ينفرط عقده عند أنصاف مثقفي عصرنا وبالتالي سيضيعون قوة الفقه والتصوف وعلم التوحيد معا حينما سيشطرون هاته المواد على مستوى القطيعة المعرفية أو الفصل العنصري فيما بينها أثناء التدريس، فوقع أو كاد ما سبق وعبر عنه الإمام مالك كما رأينا قريبا!. 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية