آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : رهان الأرواح في صحبة قطب الصلاح الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش -17

ثالثا : ربح الرهان من غير شوائب الخسران


إن هذه النقلة المعرفية التي استفدتها في صحبة شيخي،؛كذرة من بحر لجي، قد ساعدتني على إنجاز عدة بحوث في مدد قياسية بالنسبة إلى الباحثين الذين كانوا في نفس سلكي أو قسمي،كما أنها قد ذهبت بي في بعض الأحيان إلى أن أقلل من قراءة الكتب والاستغراق في استخراج النصوص لتكملة موضوع أو تأسيسه أو ما إلى ذلك مما يعترض الباحثين عند بحثهم . 
لغاية أنني صرت في بعض الأحيان أكتب النص أولا؛من بنات أفكاري كمرحلة أولية وممهدة لتناسق الموضوع،ثم أبحث له عما يناسبه من مصدر أو مرجع لتزكيته،باعتباره بحثا مرجعيا موثقا وهكذا،وهذا مما ساعدني على السرعة في الإنجاز واختزال الوقت والطاقة وبالتالي ضمان انتظام المواضيع وتسلسلها واسترسالها من غير تحايل أو انتحال!. 
بحيث إنه أثناء المناقشة وخاصة عند بحث :خصائص الدراسات النفسية والأخلاقية عند المسلمين في الفرن الخامس الهجري،إذ سيعترض بعض الأساتذة على جملة من أفكاري بدعوى أنني قد اقتبستها من مدارس نفسية حديثة أو فلسفات معاصرة أذكر من بين ما كان قد استشهد به حينذاك هو نوع تطابق مع رأيي وبعض ما يسمى بالجشطلتية نسبة إلى الفيلسوف جشطلت،في حين أنني كنت في تلك الفترة لا أعرف ما هي الجشطلتية وما فحوى نظرياتها. 
فكان هذا النوع من التطابق اللاإرادي بين أفكاري وأفكار بعض الفلاسفة أو علماء النفس المحدثين بصفة خاصة مؤكدا لنظرية وحدة العلوم التي يؤسس لها التصوف وكذلك الفلسفة الإسلامية التوفيقية على نمط ما عبر عنه الغزالي رحمه الله تعالى:"لا يستبعد أن يقع الحافر على الحافر"وأيضا:"لا يعاف من العسل لوجودها في محجمة الحجَّام"المنقذ من الضلال مكتبة الجندي ص34. 
لست الآن بصدد استعراض الكتابات أو التباهي بها لأنها مهما تنوعت فقد تبقى بسيطة ومحدودة،وكذلك قد يعتريها النقص بوجه أو آخر،كما أن هذا سيتنافى مع مقصدي ومبدئي الذي تربيت عليه في صحبة شيخي ! 
لكن الغاية عندي هي تبيين الأثر العلمي والرهان الرابح،المشع والمأذون من طرف الشيخ على المريد،حينما يكون هذا الأخير صادقا في توجهه وسليما في نيته؛متخليا عن حظوظه النفسية،أرجو من الله تعالى أن يحقق هذا الوصف في وسائر الفقراء بفضله ومنته آمين! 
و حتى هذه الحظوظ إن وجدت ،بل هي بالفعل موجودة مهما سعى الشخص إلى استبعادها عن نفسه،فالشيخ بسعة همته قد يروِّضها ويصرفها إلى حظوظ أخروية رغم أنفها طالما بقي المريد مرتبطا بشيخه ارتباط الابن البار بأبيه وارتباط التلميذ النجيب بأستاذه الناصح الأمين. 

أذكر عند هذه المرحلة أنني بدأت الكتابة في الجرائد والمجلات منها المحكمة وغيرها وذلك بحكم طبيعة مهنتي ومقتضيات البحث العلمي ،الذي مع الأسف لا يؤبه به في بلدنا بالشكل المطلوب ولا يلتزم بحصيلة الملف العلمي وأثره في ترقية الأستاذ وخاصة في بعض الجامعات التي يغلب عليها الطابع الفئوي أو الطائفي بدلا عن الاعتبار العلمي النزيه. 
فكان من بين الجرائد التي كتبت فيها بكثافة جريدة العلم المغربية وخاصة ملحق الفكر الإسلامي الأسبوعي .وذات مرة نشرت مقالا بعنوان أخلاق السياسة أو سياسة الأخلاق عند الماوردي فقرأه أحد الإخوة من الطريقة هو فضيلة الدكتور سيدي عبد الرحمن بلعكيد مقدم الطريقة بالدار البيضاء،فلما لقيني قال لي:قد قرأت لك الموضوع وهو مهم ومع هذا أرجو من الله تعالى أن يحفظك من حب الرياسة ! .أجبته بكل بساطة وتواضع:اللهم آمين. 
وذات مرة كنا بحضرة شيخنا سيدي حمزة فكرر هذا المقدم ،بنية حسنة وحرص جميل،نفس الموضوع وبنفس الدعاء السابق.فالتفت الشيخ إلي مبتسما ثم عقب عليه قائلا:من ؟سيدي محمد،هذا ليس بعُشِّه،أو بعبارته الدارجة:هذا خاطيه ! . 

حمدت الله على هذه التزكية من طرف شيخي وأخذت درسا كبيرا من الأدب في حضرته أو التأدب مع باقي إخواني بعدم سوء الظن بهم أو إسقاط أحكام ذاتية على تصرفاتهم، خاصة وأن لنا شيخا يمثل المرجعية في باب التربية ومراقبة أحوال النفوس ومعها القلوب فلا ينبغي الافتئات على مريديه وهم في حضرته مهما على شأن المريد الملاحظ ،ولنا في حديث حنظلة الأسوة الحسنة فلنراجعه. 
وفعلا فإن موضوع الرئاسة لم يكن يخطر ببالي حينئذ ولم أجعله في قائمة أهدافي ولو بلغت ما بلغت من مناصب .فقد لا يليق بي حسب منزلتي المتواضعة سوى التدريس وفي حدود،بل قد لا تتناسب تلك المناصب ،سياسية كانت أم إدارية، مع شخصيتي التي تنبو عن الزعامة في المجالس ولو كانت بسيطة، حتى إنني قد لا أسمح لنفسي بالتقدم ولو في إمامة الصلاة ومع من هم قد يبدون دوني في التحصيل العلمي وخاصة الشرعي. 
ولست أدري هل هذا الحال إيجابي كل الإيجابية أم أنه سلبي إلى حد ما قد يعبر عن ضعف في الشخصية وانقباض ذاتي من المسؤولية ربما فوت ويفوت علي مصالح خاصة وعامة كان بالإمكان تحصيلها إفادة وزيادة؟ 
وموازاة مع هذا الحال فقد ينتابني شعور بالعفة عن التسابق من أجل تحصيل المال بسلوك الطرق المتنوعة كما يسلكها غيري ولا أسمح لنفسي بالتزاحم والمنافسة في هذا المجال بالرغم من أن الباب قد يكون مشروعا ولا توابع سلبية عليه ،ومع ذلك فأعود الأدراج وأفضل الركون على اللجاج والمشاكسة في باب الكسب وتنويع المحاصيل،حتى إنني إذا وجدت لقطة من مال وغيره لم تشأ نفسي تناوله ولو كان مرميا في الخلوات فإما أن أتركه هكذا وإما أن آخذه وأتصدق به ،وعلى هذا ربيت ذريتي ونصحت أهلي . 

أذكر من بين مظاهر هذا الحال في الطريقة أنني ذات ليلة كنا في زيارة لشيخنا سيدي حمزة بمدينة الدار البيضاء وكنت حينها قد وصلت للتو من مدينة تطوان حتى إنني لم أتناول طعام العشاء لغاية أن قرصني ألم الجوع ،فلما حان وقت العشاء ونودي على الفقراء ليأخذوا أماكنهم نظرا لكثرة العدد إذاك،بدأت مرحلة أخذ المواقع أو المقاعد عشرة تلو عشرة بحسب الأماكن التي كانت مخصصة لذلك.وإذ نحن كذلك وبما أن كل مجموعة كانت تتسابق لنيل حظها فقد كنت من بين المتسابقين برفقة أحد الإخوة الأساتذة . 
لكن ونحن مسرعين لأخذ مقاعدنا وبعدما استوينا نظرت من حولي فوجدت أنني ربما سابقت بعض الفقراء الذاكرين من أجل تناول الطعام ! حينها تحركت لدي النفس اللوامة على أشد ما يكون اللوم وشعرت وكأنني قد خزيت وخجلت من نفسي فتساءلت:هل هذا هو مستواك يا بنيعيش فأين زهدك وتصوفك وترفعك عن المناصب وحب الرياسة ...؟ 
حينها قلت لصديقي لما حضر الطعام: إنني لن أتناوله مهما كلفني شرهه ومهما بلغ بي الجوع ما بلغ ! .قال لي مبتسما ولائما :تعال كل ولا تبالي فالوقت وقت أكل وإذا لم نفعل ما فعلناه فقد يفوتنا العشاء ونبيت جوعى.أجبته في الحين :أنا لن آكل أما أنت فكل هنيئا مريئا،ولو فعلت الآن فإنني نفسي ستظل تعذبني شهورا وربما أكثر على هذا العمل وهذا الشره الذي انتابني حتى صرت مسابقا في باب نيل الطعام،وهكذا بت جائعا حتى الصباح ولكن بضمير مرتاح !. 
ربما قد أبدو متطرفا في هذا الأمر ومشددا على نفسي لكن ليس باليد حيلة فهذا طبعي وهذه نفسي وتربيتي حتى في حضرة شيخي سيدي حمزة لغاية أنه في بعض الأحيان حينما كنت أتناول معه طعاما وأتحفظ في مد يدي وأقلل من الازدراد فكان يقول لي :إنك لا تأكل كثيرا وتشبه أباك في هذا الأمر ! 
فأحمد الله على هذا الوصف وأشكر ه على أن جعل بطني نقية من التطلع إلى الحرام والجشع منذ نعومة أظفاري إلى كهولتي وعلى هذا النهج تربيت وربيت أهلي أرجو منه سبحانه وتعالى أن يتم علي نعمته وعلى والدي وأهلي ويصلح لي في ذريتي إنه سميع مجيب الدعاء. 
كما أن هذه المسيرة بصحبة هذا الشيخ المبارك ووصف آثارها الإيجابية الروحية والمراحل المقطوعة في ظلها لا ينبغي تفسيرها بسلب الشخصية أو اعتبار المريد غير ذي قرار أو تفكير مستقل لحد تكريس التبعية العمياء والمرجعية الجزافية. 
بل على العكس من ذلك فإن وجود الاستعداد طريق قوي إلى الاستمداد،أي بقدر ما كان الشخص متقد الفكر قوي الإرادة بقدر ما كان ارتباطه الموضوعي بشيخه ومقتضيات الواقع أكثر إيجابية،لأن العطاء والفضل ابتداء وانتهاء هو من الله و به وإليه،والمنة له لا لغيره .!!!وهذا لا يتنافى مع مبادئ الشكر والعرفان بالجميل مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من لم يشكر الناس لم يشكر الله"،وأي ناس هؤلاء،إنهم خيرهم وأطهرهم وأتقاهم وأعلمهم بالله وشرع الله،فيشرف العلم بشرف المعلوم والعارف بشرف مقصده ومعرفته:"وأن إلى ربك المنتهى". 

في حين أود القول بأن ما ذكرته عن مراحل انتقالي في مسالك الدراسة والنجاحات النسبية المتحصل عليها قد تبدو لدى الكثير هي عبارة عن تحصيل حاصل وأنه يمكن أن تتحقق وأكثر منها لدى عديد من الناس ولو بغير صحبة ،وهذا كلام صحيح وواقعي إذ الاستعداد قد يؤدي إلى الاستدراك وحرق المراحل بحيث تبقى المسألة حظوظ وإرادة ،مع أنها تبقى حظوظا دنيوية محضة. 
لكن الأمر والغاية في هذا السرد هو التنبيه على جانب الإيجابية التي يمكن أن تمنحها الصحبة في بابٍ أتعابه أكثر من ثوابه وإكراهاته أضخم من أجوره قد يكسب فيه الشخص الأعداء أكثر من الأصدقاء والحساد على عدد النقاد والقلق لغاية إدمان الأرق ،ومع ذلك يبقى الشخص متشبثا بثوابته لا يبيع طريقته بمطامحه ولا يدوس أذكاره بدراهمه ومناصبه. 
هذا المعنى في علاقة المريد بشيخه واستفادته منه قد يشخصه بعض الصوفية توجيها مطابقا لما رأيناه واقعا من خلال صحبة شيخنا سيدي حمزة، وكأن المشهد هو نفسه والمجلس هو عينه والمقصد هو المقصد! وإن كنت أرى التقصير في صدق الصحبة والضعف في سيري بحسب زماني وظروفي وأهوائي وعثراتي ... 
يقول ابن عطاء الله السكندري في لطائف المنن:"قد قلت لبعض تلامذة الشيخ يعني أبا العباس :أريد لو نظر إلي الشيخ برعايته وجعلني في خاطره،فقال ذلك للشيخ،فلما دخلت على الشيخ قال رضي الله عنه:لا تطالبوا الشيخ بأن تكونوا في خاطره بل طالبوا أنفسكم أن يكون الشيخ في خاطركم فعلى مقدار ما يكون عندكم تكونون عنده! ثم قال:أي شيء تريد أن تكون؟والله ليكونن لك شأن عظيم،والله ليكونن لك كذا وكذا !!! لم أثبت منه إلا قوله:ليكونن لك شأن عظيم. 
قال:فكان من فضل الله سبحانه ما لا أنكره.قال :أخبرني سيدي جمال الدين ولد الشيخ قال:قلت للشيخ:يريدون أن يصدروا ابن عطاء الله في الفقه!فقال:هم يصدرونه في الفقه وأنا أصدره في التصوف،وقال:دخلت عليه فقال:إذا عوفي الفقيه ناصر الدين نجلسك في موضع جدك ويجلس الفقيه من ناحية وأنا من ناحية وتتكلم إن شاء الله تعالى في العلمين.فكان ما أخبر به رضي الله تعالى عنه! 
قال:وسمعته يقول:أريد أن أستنسخ كتاب التهذيب لولدي جمال الدين!فذهبت أنا فاستنسخته من غير أن أعلم الشيخ وأتيته بالجزء الأول، فقال:ما هذا ؟قلت كتاب التهذيب استنسخته لكم،فلما نهض ليقوم قال:اجعل بالك الولي لا يتفضل عليه أحد تجد هذا إن شاء الله تعالى في ميزانك! 
فلما أتيته بالجزء الثاني لقيني بعض أصحابه عند نزولي من عنده قال:قال الشيخ عنك والله لأجعلنه عينا من عيون الله يقتدى به فيعلم الظاهر والباطن،فلما أتيته بالجزء الثالث ونزلت من عنده لقيني بعض أصحابه وقال طلعت عند الشيخ فوجدت عنده مجلدة حمراء فقال هذا الكتاب استنسخه لي ابن عطاء الله والله ما أرضى له بجلسة جده ولكن بزيادة التصوف!!! 
...قال :وكنت كثيرا ما يطرأ علي الوسواس في الطهارة(وهو نفس المرض الذي كنت أعاني منه تقريبا...) فبلغ ذلك الشيخ فقال:بلغني أن بك وسواس في الوضوء،قلت:نعم! فقال رضي الله عنه :هذه الطائفة تلعب بالشيطان لا الشيطان يلعب بهم! 
ثم مكثت أياما ودخلت عليه فقال :ما حال ذلك الوسواس قلت على حاله،فقال:إن كنت لا تترك الوسوسة لا تعد تأتينا! فشق ذلك علي وقطع الله ذلك الوسواس عني،وكان رضي الله عنه يلقن للوسواس :سبحان الله الملك القدوس الخلاق الفعال "إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز". 
فهذه تقريبا نفس الأذكار التي لقنها لي شيخي سيدي حمزة لمعالجة نفس الوسواس دبر كل صلاة!!كما أنه سيلقنني ذكرا خاصا بطلب العلم والاستفادة منه روحيا بالدرجة الأولى،وذلك كتأكيد على أن فراسة الشيخ لم تقتصر على مجرد الدعوات والإيماءات وإنما هي توجيه عملي ومتواصل بالتحفيز والتشجيع والتثبيت الروحي من خلال الكلمة المتكررة والمرسخة لهذا الهدف حتى يستقيم في نفس المريد. 
هذا الدعاء الذي لقنني إياه شيخي سيدي حمزة ،وإن كنت لم ألتزم به بصورة مكثفة ومتواصلة،قد كان:"اللهم نور بالعلم قلبي واستعمل بطاعتك بدني وخلص من الفتن سري واشغل بالاعتبار فكري وقني شر وساوس الشيطان وأجرني منه يا رحمن حتى لا يكون له علي سلطان". 

أخيرا يقول ابن عطاء الله السكندري:"لقد صحبت الشيخ اثني عشر عاما فما سمعت منه شيئا ينكره ظاهر الشرع من الذي كان ينقله عنه من يقصد الأذى... 
وعبد ربه الفقير إليه- كاتب هذه السطور- يقول:"لقد صحبت الشيخ سيدي حمزة أكثر من أبعين سنة لم أسمع منه ما ينكره الشرع في ظاهره ولا باطنه كما لم أسمع منه ما يستنكره العقل أو يستهجنه الذوق من أقواله أو سلوكه جملة وتفصيلا . 

فكان والحمد لله نموذجا ووارثا محمديا في ظاهره وباطنه بالتواصل والتكامل! 
من هنا سأجمل اعتقادي وتصوري عنه في هذه المحطة النموذجية. 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية