العزيز مَن يمنع فيشكر. ويبتلي فلا يشكو من يعرفه ولا يضجر. يستلذ لحكمته الهوان. ويستحلي منه الحرمان دون الإحسان.
وكان الشيخ أبو علي الدقاق، رحمه الله تعالى، كثيراً ما يقول: "إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى". واعلم أن القلوب مجبولة على أن تتحمل المشاق من الأكابر والأعزة، والانقياد إلى أحكام من تجل رتبته بمواطأة القلب حتم مستحسن، ولهذا قيل: "إنما يعرفه عزيزاً من أعز أمره وطاعته، فأما من استهان بأوامره فمن المحال أن يكون متحققاً بعزة مولاه".وفى هذا المعنى حكي أن رجلاً قال البعض العارفين: "كيف الطريق إليه ؟ فقال: لو عرفته عرفت الطريق إليه، فقال: أتراني أعبد من لا أعرفه ؟ فقال المسؤول: أو تعصي من تعرفه".
وقيل لبعضهم : "متى عرفته ؟ فقال : ما عصيته مذ عرفته". وقيل : العزيز من لا يرتقي إليه وهم طمعاً في تقديره ولا يسموا إلى صمديته فهم قصد إلى تصوير. وقيل : العزيز من ضلت العقول في بحار عظمته. وحارت الألباب دون إدراك نعمته وكلَّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله. ووصف جماله.
قال سيد الأولين والآخرين وخطيب المرسلين صلوات الله وعلى آله أجمعين بعد ما بالغ في ثنائه سبحانه وتعالى ونعت كبريائه : (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
ومن آداب من عرف أنه العزيز أن لا يعتقد لمخلوق إجلالاً ولهذا قالوا : "المعرفة حقر الأقدار سوى قدره، ومحو الأذكار سوى ذكره". وقال صلى الله عليه وسلم : (من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه). سمعت الدقاق يقول : "إنما قال ذهب ثلثا دينه، لأن المرء بثلاثة أشياء : قلبه ولسانه وبدنه. فإن تواضع بلسانه وبدنه ذهب ثلثا دينه، فلو اعتقد بقلبه ما حصل منه بلسانه وبدنه للغني لأجل غناه من التواضع لذهب دينه كله". وقيل إذا عظم الرب في القلب صغر الخلق في العين.
وإذا عرف أنه المعز لم يطلب العز إلا منه ولا يكون العز إلا في طاعته سبحانه. وقال ذو النون المصري : "لو أراد الخلق أن يثبتوا لأحد عزا فوق ما يثبته اليسير من طاعته لم يقدروا. ولو اجتمع الخلق على أن يوجبوا لأحد ذلًّا أكثر مما يوجبه اليسير من زلته ومخالفته لم يقدروا".