وهذا كلّه في حقّ السائرين. وأمّا الواصلونَ المتمكّنونَ فلا كلامَ عليه. إذْ أمرهم كلّه بالله. وعليه يُحملُ حالُ الصحابة رضي الله عنهم. إذ كان فيهم المتسبِّبون، كالصّديق والفاروق وغيرهما. والإجماع على تفضيلهما، فيُحتملُ ذلكَ على أنه كان بعدَ كمال حالِهِم. وأيضاً : مُشاهدتُهُم لنور النبوة، منعتهم من الرُّكون إلى شيء سواهٌ. فنظرة واحدة من الرسول صلى الله عليه وسلم تُخرجه من عَوالِمِهِ وعَوائِدِهِ في ساعَةٍ واحدةٍ، والله ذو الفضل العظيم، ولمّا كان راكب البحر على خطرٍ، إمّا أن يَسْلَم، وَإمّا أنْ يَغرَقَ، طلبَ النجاة من الغَرَقِ في بحرِ الأوهامِ، أو في بحرِ الشكُوكِ والخَواطرِ، أو في بحر الزَّندقةِ والإِلْحادِ فقال : (وَانْشُلْنِي) أي : خلِّصنِي وأنْقِذْني (مِنْ أَوْحَالِ) جَمع وَحْل؛ وهو الخَضْخاضُ. أي سلمني من وغيض (التَّوْحِيدِ). من إضافة المشبه به إلى المشبّه. أي : أنقذني من توحيد كالخَضخَاضِ، بأن يصحبَه تكدير وتخليط، إمّا برُؤية السِّوى معَهُ؛ وهو توحيد العوّام؛ وهو مكدَّرٌ بالأوهامِ والشكوكِ والخواطرِ، وأمّا باعتقادِ الحلولِ والاتحادِ. فإنَّ بَعضَ الجَهلَة اعتقدوا السِّوى، وادَّعَوْا حلول الألوهية فيه. وهو مذهب النَّصارى، وبعضهم ادَّعى وجود السِّوى، لكنَّه اتُّحِدَ وامتزج معَ الألوهية. وهو كفرٌ حرامٌ. يا عجبًا كيف يظهر الوجود في العدَم ؟ أمْ كيفَ يثبُت الحادِث معَ مَنْ لَهُ وصفُ القِدَم ؟.
وأهل التحقيق لم يثبتوا مع الحق سواهُ، ورأوا الكُلَّ منهُ وإليهِ، فالكلُّ دونَ الله، إنْ حقَّقْتَهُ عدمٌ على التفضيل والإجمالِ. وإلى ذلك أشارَ القائل بقوله :
مَن لا وُجودَ لـــــذاتهِ من ذاتــــهِ فوُجودُهُ لولاهُ عيْنُ مُحـــــــــــالِ
فإنْ لمء تَذُقء مَا ذاقَهُ الرِّجالُ فَحُطَّ رَأسَكَ لأقْدَامِ الرِّجَالِ
حتَّى يسْقوكَ مِنَ التوحيدِ خَمرة صافية زُلَلٍ وإلاّ فسَلِّمْ لأَهلِ الكَمَالِ
وقد شبَّهوا رَاكِبَ بَحرَ التوحيدِ، براكِبِ البَحر الحسّي، فإن كان صاحبُ السَّفينة رئيساً ماهراً آوى به إلى جَبلِ السنَّة المحمَّدية، فكانَ من الناجحين النَّاجينَ، وإن كانَ صاحبُ السَّفينة جاهلاً بالبحر، آوى به إلى جبلِ عقلِهِ وحَدْسِهِ، فالتَطَمَتْ بهِ الأمواجُ فكان من المُغرقينَ. ولمّا طلبَ النَّجاة منَ الغرَقِ في بحر التخليط، طلبَ الغرَقَ في بحرِ الصَّفاءِ؛ وهي الوحدة الحقيقيَّة. فقال : (وَأَغْرِقْنِي فِي عَيْنِ) أي : في حقيقة (بَحْرِ الوَحْدَةِ) أي : في وسطِ بَحرِ الوحدة. والمراد لأن يَغيبَ في شهود الذَّات وحدَها. فيكون منهمكاً في الحقيقة، غائبًا في وُجوده بوجودِ مشهودِهِ، كما قالَ الجُنيد رضي الله عنه :
وُجُودي أنْ أغيبَ عَنِ الوجودِ بما يبدو علَيَّ من الشهود
وإن غاب في الحقِّ، كان أمره كله به لا بنفسه، ولذلك قال : (حتّى لا أَرى) إلاّ بالذاتِ العلية، (ولا أسمع) إلاّ بها ومنها. كما قال الششتري :
أنَّا باللهِ أنْطِقُ ومِنَ اللهِ أَسْمَعُ