آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : الذخيرة لأهل البصيرة (10)

فصل :

اعلم أنَّ للآدمي مع كُلّ واحِدٍ من عسكر باطنِهِ علاقةً وله كلّ واحدٍ منهم خُلقٌ وصفةٌ .
منها : أخلاق سوءٍ تُهلكُهُ ويكون سببا لشقاوته وردَّه إلى أخسر حال. 
ومنها : أخلاقٌ جميلةٌ تكون سببُ سعادته ووُصوله إلى أعلا رُتبةٍ.
 وهذه الأخلاقُ كثيرة، لكنَّها ترجع إلى أربعة أُصول : أخلاق البهائم، وأخلاق السِّباع وأخلاق الشياطين، وأخلاق الملائكة، فهو لكون الشهوة المركَّبة فيه يعمل أعمالَ البهائم كالشَّرَه في الأكل والمجامعة وغير ذلك، ولكون الغضب الموضوع فيه يفعلُ أفعال الذئب والكلب والسَّبُع، كالقتل والعضّ وغير ذلك من المخاصمة والوقيعة في الناس، ومن حيث أنّه وُضعَ في جِبلَّتهِ خُلُقُ الشياطين، يوجدُ منه المَكرُ والحيلةُ والتلبيسُ وإيقاع الفتن، ومن حيثُ أنّه رُكِّب في طبيعته أخلاق الملائكة، يوجد منه العلمُ والتعلُّمُ والمعرفةُ وطلبُ الصَّلاح بين النّاس وعزّة النفس والتأبّي من الأفعال الخسيسة، والترفّع عن الرذائل ، والابتهاج بمعرفة الأمور وتقبيح الجهل، فإن في جبلّة كلّ آدمي على الحقيقة هذه الأصول الأربعة البهيميّةُ والسبعيّةُ والشَّيطَنةُ والملكيَّةُ، فإنّ الكلب لم يكن خِسِّيساً مذموماً لصورته إنّما حقيراً مُبَعَّداً بَخساً مذموماً لِما في باطنِهِ من الخِصالِ الذَّميمةِ والوقيعة في الناس ، وكذلك الخنزير ليس مذموم لصورته، إنّما كان مذموماً حقيراً لما في طبعه من الحرص على الأشياء القبيحة والشَّره، وحقيقة رُوحِ الكلبيّة والخنزيرية إنّما هو هذا المعنى، وهو موجود في الآدمي، وهكذا حقيقةُ الشيطانية والمَلكيَّة إنّما هو ما ذكرنا، والآدمي مأمور أن يكشف بنور العقل الذي هو أثرُ الملائكة، ويرفع التلبيس والمكر والحيلة الذي هو أثر الشيطان ليفتضح فلا يجد السبيل إلى إلقاء الفتن والخصائم بين الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لكل آدم شيطان يستغويه ويأمره بما لا رضا لله فيه، ولي شيطانٌ إلاَّ نَصَرني عليه فهو مقهور لي لا يقدر أن يُفسد عليَّ حالاً من الأحوال).

 وقد أُمرتَ بتأديب خنزير الحرص والشهوة وكلب الغضب، وتجعلهما تحت حكم العقل وطوع أمره، بحيث لا يتصرّفان في شيءٍ إلاّ بإذنه، فإذا فعل ذلك حصَل لهُ من هذه الأخلاق والصفات حَظٌّ وافرٌ ونصيبٌ صالح وكان ذلك بَذر سعادته، وإن أهمل أمرَهُما وخالف الواجب في حقهما وتمَنطقَ بمنطقة خدمتهما استولت أخلاقهما عليه وكان ذلك بذرَ شقاوته وسبباً لهلكته، ولو كُشف له الغِطاءُ حينئذ عن حاله لرأى نفسَه وقد رُبطَ في وسطه منطَقة خدمة الشيطان أو الكلب أو الخنزير وجعل الأخلاق الملكيّة أسيرةً في قبضة الشيطان والسَّبع والبهيمة، ولا شكّ أنّ من أوقع مسلماً في أسرِ كافرٍ قد يبوء بإثم عظيم وخزي وافر، فكيف بمن أوقع مَلِكاً في يد خنزير أو كلب أو شيطان وجعله أسيره فلا شكّ أنه يكون أعظم إثماً وأكثر وزراً، ولو أنصف أكثر الخلق وطالَعوا أحوالهم وحاسبوا نفوسهم لرأوها وقد تمنطق كلّ منهم بمنطقة العبوديّة لاتباع هوى النفس ومرادها فهو الأعلى، الحقيقة وإن كانت صُوَرُهُم آدميّة فإنَّهم إذا كُشفَ الغطاءُ يومَ القيامة وظهرتْ السَّرائرُ وصارَتِ الصُّورُ هباءً لا يُعتدُّ بها، وكانتِ المعاني هي المُعتبرةُ رأى نفسهُ من استحوذت عليه الشهوات في صورةِ خنزير، ومَن كان في هذه الدنيا قد استولى عليه الغضبُ رأى نفسه في صورة ذئب، ولهذا من رأى في منَامه ذئباً كان تأويلُه رُؤية رجلٍ مُجالسٍ قَذِرٍ شرِّيرٍ، فالنوم أُنموذج الموتِ وبقدر نسبته النوم وبُعده من هذا العالم وقربُه من العالم الآخر تصيرُ الصورة تبعاً له للمعنى حتى يُشاهدَ كل واحد على الصورة التي يُبطنُها ولهذا سرٌّ عظيم لا يحتمل شرحُه في هذا المختصر.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية