الباب الأول : في معرفة النفس وبيان وجه كون مَعرفتها معرفة الحق سبحانه.
اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى إنّما هو معرفة النفس، ولهذا قيلَ : (مَنْ عَرفَ نفسَه فقد عَرفَ ربَّه) وقال سُبحانه :{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وابالجملة فأَقربُ الأشياء إليك نَفسُكَ، فإذا جَهِلْتَ فكيف تعرف ربّك.
فصل : عَساكَ تقُول أنا أعرفُ نفسي لَستُ أعرفُ بذلك ربّي.
فاعلم أنّ هذا الظنَّ غَلطٌ منكَ، فإنَّ المعرفة الحاصِلَة لكَ بنفسك على ما أرى، لا تصلح أن يكون طريقًا إلى معرفةِ الله سبحانه، فإنّ هذه المعرفة تُشارِكُكَ فيها البهائمُ، لأنّك إذا عرفتَ نفسك كمَا أرى، فإنّما تعرفُها من حيث حواسُّكَ وجوارحُكَ من أين جاءت، وتعرف من ظاهِرِ خِلقَتِك وصورَتِكَ، ومن باطنك أنّك إذا جُعتَ أكلتَ، وإذا غَضِبتَ أعملتَ، وإذا شبِقتَ نكَحتَ، وهذا شيءٌ يشارككَ فيه سائر الدواب، فإذن ينبغي أن تطلُبَ معرفة حقيقةَ الإنشائيَّة مَا هِيَ ؟ ومن أين جاءت، وإلى أين تذهبُ، وما سبب مقامها في هذا النزل، ولماذا خلقت، وما سعادتُهَا ومَا شَقاوتها، فإنّ الصفات المجموعة في باطنك بعضُها صفاتُ البهائم وبعضها صفات السباع وبعضها صِفات الشياطين وبعضُها صفاتُ الملائكة، فانظر مِنْ أيِّ هذه الأوصافِ جوهرك الحقيقيّ، فإذا عرفتَ هذا كان بقيَّةُ الصِّفات غريبة عندك وعاريةً معك ، وما لم تعرف ذلك لا يكادُ تجدُ السبيلَ إلى طلبِ سعادتك، فإنّ لكلِّ صفة من هذه الصِّفاتِ غداءً خاصًّا وسعادةً خاصًّةً، فغداء البهائم وسعادتُها الأكل والشرب والنوم والجماع، فإن كنتَ من جملة البهائم فاقضِ أيَّامَك ولياليك في تربيّة حال البطن والفرج، وغداء السباع وسعادتها القَتْلُ والعضّ والغَضبُ، فإن كنتَ منها فاشتغل بتربية ذلك، وغداء الشياطين وسعادتُها في التكبر والحيلَة وإيقاع الفتَن والخصومات، فإن كنتَ من جملتهم فاشغل نفسك بذلك لِتصِلَ إلى راحَتهم، وغداء الملائكة وسعادتها مشاهدة جمال الحضرة الإلهية، وعدمُ الفُتُور عن الذكر، فليس لِصفات البهائم والسباع والشياطين سبيل إليهم ولا أثر عندهم، فإن كنتَ من جوهر الملائكة فابذل جُهدَكَ في طلَبِ الحضرَة الإلهيّة واشغل كليَّتك بمشاهدة جمالها، وأقبِل بجُملَتِك على مُحاضرة جلالِهَا، وخلِّص نفسك من يد الشهوة والغضب واجتهد أن تعلم لِمَا خُلِقَتْ فيكَ صفات البهائم والسباع ولأيّ معنىً خُمِّرَتْ في طينتِكَ، أَجُعِلَتْ فيكَ لتصيرَ مُسَخَّراً لخدمتها مشغولاً بمُراعاتها مَاء سُراً في قَبضَتِها أم ليكون مَاء سُرةً في قبضتك مُستسعاة في خدمتك مسخرةً لحاجتك مساعدة لك على سفرك إلى آخرتك ومنزل كرامتك، كلاّ إنّما خُلقَتْ معاضِدة لك على شأنك فمنها مَا جُعلَ لكَ مَركَباً، ومنها مَا خُلِقَ لتَتَّخدهُ آلتك وسلاحك لتُحصِّلَ به سبب سعادَتك وتَصيدَ بمُعاونتها صيُودَ دولتك، ولا تزال هذه الأشياء بِحُكمِكَ وتحتَ قدمِك فتكون حظّ الخواصّ من ذلك السعادة بمشاهدة الحضرة الإلهية، وحَظُّ العوامِّ من ذلك الفوزُ بالجنّة، فإذا عرفتَ ما ذكرتُ عرفتَ حينئذ الطريق إلى معرفة نفسك، فمن لم يقف على هذا، ولم يعلَمهُ كان حظّه من طريق دينه القِشر دُون اللُّباب ونصيبُه من الحقيقة الوقوف عنها وراء الحجاب.