فصل : اعلم أنه لا سبيل إلى معرفة القلب وحقيقته حتّى تَعرفَ وُجودَه، ثمَّ تَعرِفُ جُنودَهُ، وكيفيّة عِلاقته بجنوده واستِخدامهُ لهُم، ثمَّ تَعرِفُ صنعته وكيف يحصل بها معرفَةُ الله تعالى، ويَصِلُ إلى سعادته، ونحن نُشير إلى طرف من كلّ ذلك بعون الله تعالى.
فنقول : أمّا وجودُه فظاهرٌ، فإنّه لا يَشُكُّ آدميٌّ في وجودِه، ووجودُه ليس بقالبه الظّاهر الذي هو جسدُه وبدنُهُ؛ فإنّ ذلك موجود للميِّت ولا روح فيه، فإنّا نريدُ بهذا القلب حقيقةَ الرُّوح، فإذا لم تكن هذه الرُّوح كان الجسد ميِّتاً، ومَنْ فتحَ عَيْنَيْهِ وأَعْمَلَ نظرَهُ في السموات والأرض وما يمكنه النظر فيه؛ وعَقَل عن بدنه تَعِبَ ظاهرُهُ، فهو إن غاب عن الأشياء كلُّها ما خلا المنظورَ فيه، فلا يغيبُ بقسم الضرورة عن معرفة .... ولا يرتاب به وإن كانت الغفلة مستوليةً عليه حتّى أنه غَفَل عن بَدَنه وجَسده.... بحيث لا يحسُّ بشيءٍ منها، فهو لا يمكنه أن يستفئ (أي : يسترجع) عن نفسه معرفتَه بوجوده، ومن دقّق النظر وأخفى التّأمل في هذا عرفَ فيه شيئاً من حقيقة الآخرة، وأنّه يجوز أن يُنزَع عنه هذا القالبُ وان يُفرّق بينه وبين الجسم والبدن ويستفئ هو بحاله، أعني روحَه فلا يكون معدوماً، وحالَة النوم تُحقّق عند البَصَرهذا القول.
فصل : أمّا حقيقة ماهية القلب وصفته الخاصة، فإنّه لم يرخّص الشرع في كشفه، ولم يأذن فيه، قال الله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}فذكر أنه من عالم الأمر، وأنّه إلهي ولله الأمرُ والخلق، فكلّما تطرّق إليه مساحةٌ ومعرفةٌ وكميّةٌ ومقدارٌ فهو من عالم الخلق، فإن الخلق في الأصل يراد به التقدير،قال الشاعر:
ولأَنتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبعضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
وليس لقلب الآدمي مقدار وكميَّة، ولهذا لا يقبل القِسْمَة فإنه لو قَبِلَها لجاز أن يكون في أحد جانبَي القلب جَهلٌ بشيء، وفي الجانب الآخر عِلْمٌ بذلك الشيء في حالٍ واحدة، فكان يوصف بكونه عالما وجاهلا في حال واحدةٍ وذلك محال.
واعلم أن الرُّوحَ مع أنها لا تقبل القسمة مخلوقة، فإن الخلق كما يُستعمل بمعنى التقدير فإنه يُستعمل بمعنى الإيجاد، فهو على هذا المعنى من جُملَة الخلق، وبالمعنى الآخر من جُملة عالم الأمر لا من جملة عالم الخلق، فإنّ الأمر عبارةٌ عن أشياء لا يتطرَّقُ المساحة والمقدار إليها، ولَعَمْرُكَ لقد غَلِطَ من قال أنّ الرُّوح الجسميّة قديمةٌ، وهكذا من قال هي عرض لأن العَرض لا يقوم بنفسه إنما يكون تَبعاً، والرُّوح أصل للآدمي وجميع بدنه تبعٌ له فكيف يكون عرضاً وهو .... وأخطأ من قال الرّوحُ جسم لأن الجسم يقبل القسمة والروح لا يقبل ذلك، وإنما هناك روحٌ أخرى تقبَلُ القِسمة وهي الرّوح التي يشترك فيه سائر الحيوان، البهائم والطيرُ والحشراتُ وغير ذلك، أمّا هذه الروح التي نسميها القلب فهي محلّ معرفة الله سبحانه، وليست إلا مختصّة بالملائكة والآدمي دونَ بقية الحيوان، وليست بجسمٍ ولا عرضٍ لكنّها جوهرٌ من جنسِ جوهر الملائكة، وتشق معرفة حقيقتها إذ لم يرخِّص الشرع في كشف القناع عن هذه الرُّوح، على أنه لا حاجَةَ تَمَسَّ إلى معرفة حقيقة الرُّوح، فإنّ أوّلَ طريقِ الدّينِ إنَّما هو المجاهدةُ، ومن جاهدَ نفسَهُ على الوجهِ المُشتَرَطِ حَصَلَ لهُ حقيقَةُ معرفَةِ القَلبِ من غيرِ أن يَقِفَهُ عليهِ أُستاذٌ، وهذه المعرفةُ من جُملةِ الهدايةِ التي وعد اللهُ سبحانه بها من جاهد فيه، فقال سبحانه : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}ومن لم تكمل مجاهدتُهُ وكان مبتدئاً في رياضتهِ، فلا يجوز تعريفه حقيقة الرُّوح، وإنّما الذّي ينبغي أن يُعرَّفَ قبل المجاهدة إنّما هو جُنُودُ القلب، فمن لم يعرف جُنودَه لم يصلح لهُ المجاهدة ولم يمكّنهُ.