صلة الحلَّاج بالله سبحانه، تدور على قطبين : الحب الواله القوي الغلاب المذهل، والفناء في هذا الحب فناءً شاملًا يذوب فيه كل شيءٍ ماديٍّ دنيويٍّ ويحترق ليخلد.
ثم مرحلة السير في هذا الحب، ومجالات هذا السير الروحية، بما فيها من إلهاماتٍ وتجلياتٍ، ومواجيدَ وأشواقٍ وحيرةٍ ودهشةٍ وعذابٍ.
والمحب هنا في عذابٍ ملهمٍ، يُعذب في بحثه عن مولاه، ويُعذب في حبه له، ويُعذب في حيرته حيال جبروته وآياته.
والعذاب في الحب الإلهي أكبر خيرٍ يفيضه الله سبحانه على عبده ووليه المحبوب.
وإن لله سبحانه لنظراتٍ وإشراقاتٍ وزياراتٍ للقلب المحب المعذَّب المحترق، زيارات تَهَبُ ولهًا مقدَّسًا، يعقبه هجران يدفع إلى دهشةٍ محلقةٍ.
ومن كل هذه الانفعالات تنبثق مواجيد المعرفة العليا، وتسبيحات الولاية العظمى، وينبثق فوق هذا وذاك في قلب المحب، فيضٌ إلهيُّ يعبر عن الإرادات الإلهية، ويقتبس من نورها وهداها.
وروح المحب الولي، هو وحده الذي يظفر بهذا الحب الإلهي، لا عن طريق الحلول التحيزي، بل بوساطة الفيض النوراني الذي يرفع أرواح الأولياء المحبين إلى المراتب القدسية.
وخلال هذا الفيض أو هذا الاتصال، تحدث الجذبة الروحية التي تصورها لنا تلك المناجاة المشعة المستمرة بين روح المحب ومحبوبه الأسمى الذي تشعر بوجوده في أعماقها.
وحينئذٍ تتوالى ضراعات الروح وترتفع إلى مولاها بكل آلامها وآمالها وأشواقها في لغةٍ فوق لغة الألسن، وفي تصويرٍ لا يمت إلى العلائق الدنيوية بصلةٍ أو نسبٍ.
يقول الحلَّاج: «اعلم أن العبد إذا وحَّد ربه فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي، وإنما الله تعالى هو الذي وحَّد نفسه على لسان من يشاء من خلقه، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ.»
والذين لا يستطيعون متابعة مثل هذا الروح في عروجه وسلوكه وحبه وعذابه وتجربته، لا يستطيعون أن ينكروا أنها محاولةٌ في المعرفة الذوقية، وفي الحب والإيمان اليقيني، ليست أقل شأنًا في تاريخ العقل الإنساني من مسلك الفلاسفة، ومنهج المتكلمين.
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «إذا كان وجود الخالق ووجود المخلوق واحدًا، فلا معنى لقيام حوار العشق بينه وبين الله.»
وهذه آية الآيات على نفي الوحدة، ونفي الحلول في منهج الحب الإلهي الصوفي.
والحلَّاج من أكبر من تغنوا بالحب الإلهي، ولعله أكبرهم عاطفةً، وأشدهم وجدًا وولهًا.
يقول الحلَّاج: «إن المسافة بين النفس وبين الله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي.»
ويقول: «إن شهادة الحمد هي شهادة حبٍّ، وإن القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبدًا.»
إن عذاب الحلَّاج في حبه، وفي صلته بربه لتقدم لنا أروع نماذج الإيمان الصوفي.
لقد عاش الحلَّاج في وجدٍ وعذابٍ، وفي سبحةٍ علويةٍ من إلهامات حبه وشوقه وذوقه.
وإنها لمواجيد حقٍّ وصدقٍ، وإن عجزت عنها فهوم الأكابر.
يقول الحلَّاج:
مواجيد حقٍّ أوجد الحق كلها وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الوجد إلا خطرةٌ ثم نظرة تُنَشِّي لهيبًا بين تلك السرائر
إذا سكن الحق السريرة ضوعفت ثلاثة أحوالٍ لأهل البصائر
والوجد والعذاب فيضٌ ربانيٌّ على المصطفين الأحبة؛ ولهذا فهو لا يصطنع في وجده ما يلهبه ويثيره من سماعٍ أو ذكرٍ كما يصطنع غيره:
أنت المُولِّه لي لا الذكر ولَّهني حاشا لقلبي أن يعلق به ذكري
الذكر واسطةٌ تخفيك عن نظري إذا توشَّحه من خاطري فِكْري
وكل شيءٍ في الوجود مادي أو معنوي، هو حجابٌ دون رؤية الله سبحانه، يجب الفناء عنها، كما يجب أن يفنى الإنسان عن نفسه أيضًا.
بدا لك سرٌّ طال عنك اكْتِتَامُه ولاح صبح كنت أنت ظلامه
وأنت حجاب القلب عن سر غيبه ولولاك لم يطبع عليك ختامه
إن تجربة الحلَّاج الصوفية في المعرفة الإلهية لتجربةٌ فذةٌ عليها طابعه وحده، لقد شارك الصوفية في مواجيدهم وأذواقهم، ثم ابتدع منهجًا خاصًّا به هو سره الأكبر، لقد جعل من الآلام شيئًا مقصودًا لذاته.
أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلتُ منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
يقول ابن الخطيب، في تاريخ بغداد: «إن ابن عطاء لما سمع هذا الشعر قال: هذا مما يتزايد به عذاب الشغف، وهيام الكلف، واحتراق الأسف، وشغف الحب، فإذا صفا ووفا، علا إلى مشربٍ عذبٍ، وهطل من الحق دائم سكب».
والحب لذةٌ لا يعرفها إلا الصفوة من المحبين.
مكانك من قلبي هو القلب كله فليس لخلقٍ في مكانك موضع
وحطتك روحي بين جلدي وأعظمي فكيف تراني إن فقدتك أصنع
وأي أرضٍ تخلو منك حتى تعالوا يطلبونك من السماء
تراهم ينظرون إليك جهرًا وهم لا يبصرون من العماء
إنه كما يقول المستشرق دي بور يحاول أن يتذوق بروحه ما يحاول المتكلمون والفلاسفة أن يصلوا إليه بالنظر العقلي.
وإنه للحب العالي، الحب الذي تعجز الكلمات عن تصويره أو كما يقول سحنون لا يعبر عن شيءٍ إلا هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة فيما يعبر عنها.
يقول الحلَّاج:
لي حبيب أزور في الخلوات حاضرٌ غائبٌ عن اللحظات
ما تراني أصغي إليه يسمع كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكلٍ ولا نطـ ـق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأني مخاطب كنت إيا ه على خاطري بذاتي لذاتي
حاضرٌ غائبٌ قريبٌ بعيدٌ وهو لم تحوِه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمير إلى الوهـ ـم وأخفى من لائح الخطرات
ومن الكلم المضيء الذي يكشف عن منهج الحلَّاج وإيمانه الذوقي، تلك الدراسة التحليلية الرائعة التي أدارها الحلَّاج حول كيفية معرفة الإنسان لربه وخالقه.
قال في الطواسين وهي أدق وأعمق ما انفرجت عنه الأقلام: «… من قال عرفته بفقدي، فالمفقود كيف يعرف الموجود! ومن قال عرفته بوجودي، فقديمان لا يكونان.»
ومن قال: عرفته حين جهلته، فالجهل حجابٌ، والمعرفة وراء الحجاب لا حقيقة لها.
ومن قال: عرفته بالاسم، فالاسم لا يُفارق المسمَّى؛ لأنه ليس بمخلوقٍ.
ومن قال: عرفته به فقد أشار إلى معروفين؟ ومن قال: عرفته بصفته، فقد اكتفى بالصنع دون الصانع، ومن قال: عرفته بالعجز عن معرفته فالعاجز منقطع، والمنقطع كيف يدرك المعروف!
ومن قال: كما عرفني عرفته، فقد أشار إلى العلم فرجع إلى المعلوم، والمعلوم يفارق الذات، ومن فارق الذات كيف يدرك الذات!
ومن قال: عرفته كما وصف نفسه، فقد قنع بالخبر دون الأثر.
ومن قال: عرفته على حدين، فالمعروف شيءٌ واحدٌ لا يتحيز ولا يتبعض.
ومن قال: المعروف عرف نفسه فقد أقر بأن العارف في البين متكلفٌ به؛ لأن المعروف لم يزل كان عارفًا بنفسه، يا عجبًا ممن لا يعرف شعرةً من بدنه، كيف تنبت سوداء، أم بيضاء، كيف يعرف مكون الأشياء!
من لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول، والتصاريف والعلل،والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة من لم يزل.
سبحان من حجبهم بالاسم والرسم والوسم! حجبهم بالقال والحال والكمال والجلال، عن الذي لم يزل ولا يزال.
القلب مضغةٌ جوفانيةٌ، فالمعرفة لا تستقر فيها؛ لأنها ربانيةٌ.
من قال: عرفته على الحقيقة، فقد جعل وجوده أعظم من وجود المعروف؛ لأن من عرف شيئًا على الحقيقة فقد صار أقوى من معروفه حين عرفه.
ويقول الحلَّاج عن الخواص العارفين: «فالخواصُّ عباده الذين محاهم عن شواهدهم، وصانهم عن أسباب الفرقة، باستهلاكهم في شهوده، واستغراقهم في وجوده، فأيُّ سبيلٍ للشيطان إليهم! وأيُّ يدٍ للعدو عليهم! ومن أشهده الحق حقائق التوحيد، ورأى العالَم معترفًا في ثقة التقدير، لم يكن نهبًا للأغيار، فمتى يكون للغير عليه تسلطٌ!»