قَالَ أَبُو حفص: مذ عرفت اللَّه تَعَالَى مَا دَخَلَ قلبي حق ولا باطل.
قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم : وَهَذَا الَّذِي أطلقه أَبُو حفص فِيهِ طرف من الإشكال وأجل مَا يحتمله أَن عِنْدَ الْقَوْم المعرفة توجب غيبة العبد عَن نَفْسه لاستيلاء ذكر الحق سبحانه عَلَيْهِ فلا يشهد غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ولا يرجع إِلَى غيره فكما أَن العاقل يرجع إِلَى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح لَهُ من أمر أَوْ يستقبله من حال فالعارف رجوعه إِلَى ربه فَإِذَا لَمْ يكن مشتغلا إلا بربه تَعَالَى لَمْ يكن راجعا إِلَى قلبه وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب لَهُ، وفرق بَيْنَ من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عَزَّ وَجَلَّ.
وسئل أَبُو يَزِيد عَنِ المعرفة فَقَالَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] قَالَ الأستاذ: هَذَا معنى مَا أشار إِلَيْهِ أَبُو حفص.
وَقَالَ أَبُو يَزِيد: للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره وغيبت آثاره بآثار غيره.
وَقَالَ الواسطي: لا تصح المعرفة وَفِي العبد استغناء بالله وافتقار إِلَيْهِ قَالَ الأستاذ: أراد الواسطي بِهَذَا أَن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه لأنهما من صفاته، والعارف محو فِي معروفه فكيف يصح لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ لاستهلاكه فِي وجوده أَوْ لاستغراقه فِي شهوده إِن لَمْ يبلغ الوجود مختطف عَن إحساسه بكل وصف هُوَ لَهُ، ولهذا قَالَ الواسطي أَيْضًا: من عرف اللَّه تَعَالَى انقطع بَل خرس وانقمع.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا أحصي ثناء عليك).
الرسالة القشيرية