وأما شيخه السري : فهو أبو الحسن السري بن المغلس السقطي خال الجنيد، وأستاذ الجماعة؛ صَحَبَ معروف الكرخي؛ فانتفع ببركة دعائه وإقباله عليه، فكان أوحد زمانه في الورع والأحوال السنية، وهو أول من تكلَّم فيها ببغداد وإليه ينتمي أكثرُ المشايخ.
مات رحمه الله ببغداد سنة إحدى وخمسين، وقيل سبع وخمسين ومائتين، وقبره بالشونيزية ظاهر يُزار.
وسبب زهده في الدنيا أنه كان في السوق ويتردَّد إلى معروف الكرخي، فجاءه يومًا وهو في حانوته، ومعه صبي يتيم، فقال له: اكسِ هذا اليتيم، قال السري: فكسوته، ففرح بذلك معروف الكرخي فقال له: بغَّض الله لك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه، قال: فقمت من الحانوت وليس شيءٌ أبغض إليّ من الدنيا، وكل ما أنا فيه من بركات معروف.
قلت: انتهى به الحال حتى كانت الدنيا تتمثل له في صورةٍ عجوزةٍ فكانت تخدمه حتى شاهدتها أخته.
فشكته إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه قالت له: إن أخي امتنع من طعامي ورأيت في بيته عجوزًا تخدمه، فأتي إليه فكلَّمه في ذلك، قال: إنها كانت تخدمني: أعني أخته، وكانت تأتي كل ليلة بفطوري، فأبطأت علي يومًا، فسألتها عن السبب فقالت: إن غَزْلَها لم يبع وقالوا لها أنه مخلّط ,فامتنعتْ من طعامها؛ خيفةً على دَيْنِي، فقيَّد الله لي الدنيا تخدمني فهي التي رأت.
وكان أحمد بن حنبل يثني عليه كثيرًا، ويقول: ذلك الفتى طيب الغذاء، وإنه ليعجبني أمره وله معه حكايات أضربنا عنها؛ اختصارًا.
وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من السري السقطي رضي الله عنه؛ أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعًا إلا في علة الموت.
ومن كلامه: التصوف اسم لثلاثة معانٍ، وهو الذي لا يطفيء نور معرفته نورَ ورعه، ولا يتكلم في علم باطن بما ينقضه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.
قلت: فمن تحقق بهذا فهو الصوفي .
قال الجنيد: سألني السريُّ يومًا عن المحبة، فقلت: قال قوم: هى الموافقة.
وقال قوم: الإيثار. وقال قوم كذا. فأخذ السري جلدة ذراعه فجذبها ومدها فلم تمتد، قال: وعزته لو قلت ما أيبس هذا الجلد على هذا العظم إلا محبته لصدقت، ثم غشى عليه ثم دار وجهه كأنه قمر، وكان السري شديد الأدمة، وإنما أشرق وجهه في تلك الساعة ما خامر قلبه من الأنوار واستولى على باطنه من الأسرار.
وقال رضي الله عنه : أعرف طريقًا مختصرًا إلى الجنة، قيل له: وما هو؟ قال: لا تأخذ من أحدٍ شيئًا، ولا تسأل من أحدٍ شيئًا، ولا يكون معك شيئًا تعطيه أحدًا.
قال الجنيد: سمعت السري يقول في دعائه: اللهم إن عذبتني بشيءٍ، فلا تعذبني بذُلَّ الحجاب.
وقال الجنيد رضي الله عنه: جاء رجل إلى السري رضي الله عنه فقال له: كيف أنت؟ فأنشأ يقول:
مَنْ لَمْ يَبِتْ وَالْحُب حَشْو فُؤَادِه لَم يَدْرِ كَيْف تُفَتَّتْ الأكبادُ
وقال الجنيد رضي الله عنه : دفع إلى السري رضي الله عنه رقعة، وقال لي: هذا خير لك من سبعمائة قصة وإذا فيها مكتوب:
فَمَا الْحُبّ حَتَّى يُلصِقَ الْجِلْدَ بِالْحَشَا وَتذْهَلُ حَتَّى لا تُجِيب الْمُنَادِيَا
وَتَنْحل حَتَّى لا يَبْقَى لَكَ الْهَوَى سِوَى مُقْلةٍ تَبْكِي بِهَا وَتناجِيَا